بعضُ الأخطاء التي وقعت كانت قدريةً بنسبة مائة في المائة, لم تكن ناجمة عن غباء أو خطأ في الإدراك لدى مقترفها, بل بشكل كامل هو تدبيرٌ من فعْل القضاء والقدر, وفي حالات معينة يكون هذا الخطأ سببًا ليس في دمارِ حياة إنسان ما وحسب, بل ربما- ولا سيَّما في حالتنا هذه- قد يكون سببًا في خراب العالم وتدمير حياة الملايين من الناس الأبرياء!
أشهرُ هذه الأخطاء القدرية الصِّرفة هو الغلطة التي وقع فيها وليُّ عهد النمسا والمجر, الأميرُ المكروه الذي يتميز بالصَّلافة والغطرسة, وليّ العهد الذي وصلت إليه معضلةُ الوراثة دون انتظار, ولسبب جريمة غامضة وحادثة شهيرة حدثت لمن كان وريثًا شرعيًّا ومؤكدًا لعرش هذه الإمبراطورية, التي لم تعمِّر طويلًا, وحفل تاريخها بالمآسي والرزايا, واستكمالًا لتربُّص القدر بمملكة النمسا والمجر, وصلَ وليُّ العهد, الأرشيدوق “فرانز فرديناند” Archduke Franz Ferdinand 50 عامًا, وزوجته الأميرة “صوفي” Sophie, 46 عامًا, يوم 28 يونيو عام 1914م, إلى مدينة سراييفو, العاصمة الرسمية لإقليم البوسنة والهرسك, الذي كانت إمبراطورية النمسا تضع يدَها عليه, بمعنى أنَّ الزيارة كانت من الحاكم المنتظر للمملكة إلى جزءٍ من أملاك دولته, غير أنَّ هناك أشخاصًا آخرين كانت لهم آراء مغايرة, فالبوسنة ليست إلا جزءٌ من أراضي صربيا, وكنوع من الكفاح الوطني تشكَّلت جمعيات سرية, تغلبُ عليها صفة التطرف والشوفينية, لمحاولة تغيير هذا الوضع على الأرض, كان الخطُّ السلالي للنمسا ضعيفًا ومهزوزًا بعد أن تنازل وليُّ العهد عن أحقية نسله في الخلافة نظير السماح له بالزواج من “صوفي” التشيكية الأصل, والتي لم تكن تنتمي إلى أصل نبيل, كانت الأحوال في أوروبا في بداية القرن العشرين مختلفة تمامًا عما هي عليه الآن. أخيرًا وصل الزوجان الملكيان إلى عاصمة الإقليم, وكان معارضو هيمنة النمسا والمجر على البوسنة في استقبالهم, بمجموعة مختارة من أبرع القتلة وبمؤامرة مطبوخة بمهارة, في نفس اليوم, وبترتيبات أمنية بائسة, كان سببها التخوُّف من نشر قوات كبيرة داخل الإقليم الملتهب. بدأت الرحلة الأخيرة للوريث المنتظَر للعرش النمساوي, وصلَ إلى المدينة, رفقة زوجته, في العاشرة صباحًا, وبعد عشر دقائق, بينما كان الموكب يقطع شارعًا رئيسيًّا رمَى أحدُ أعضاء خطة الاغتيال بقنبلةٍ تجاه سيارة الزوجين الملكيّين, أخطأت القنبلة هدفَها, وارتدَّت لتصيب سيارة خلفها, وأصيب أكثر من عشرة أشخاص, واستكمالًا لسوء الحظِّ فشل “كابرينو فيك, ملقي القنبلة في الانتحار, فلم يكن السيانيد الذي ابتلعَه صالحًا, وكان عمق نهرِ ميلياتسكا منخفضًا جدًّا بسبب الحرارة المرتفعة ونسبة التبخُّر العالية, وبدَا أن كلَّ شيء سيكون على ما يُرام, وأنَّ الخطة باءت بالفشل, وعلى امتداد بقية الشوارع, وحتى دار البلدية, كان هناك عدة قتلة يترصدون الموكب, غير أنَّ أحدًا منهم لم يكنْ في وضعٍ يسمح له بإصابة الأرشيدوق أو زوجته إصابة مباشرة, وكان من الجليِّ أنَّ الأمير قد نجا بحياته لهذا اليوم, وتمت زيارة الأمير إلى دار البلدية على خير, وخرج هو زوجته مقررًا أنَّ من الواجب عليه زيارة ضحايا القنبلة, الذين تمَّ نقلهم إلى المستشفى لتلقي العلاج, ونتيجة لذلك تم تغيير خطِّ سيرِ الموكب, وحصل تخبط أدَّى إلى فشل السائقين في الاتفاق على شارع محدَّد يعبرون منه, وعند تقاطع الجسر اللاتيني تحركت ثلاثُ عربات, آخرها كانت عربةً تحمل الزوجين الملكيين مع حاكم سراييفو, لكن الاتجاه كان خطأ وتنبَّهت العربتان الأوليان واستدارتَا لتعودا, وأعطيت إشارة إلى سائق عربة الأرشيدوق, فاستدارَ بدوره ليضع نفسَه مباشرة أمام أحدِ القتلة الصرب المختبئين؛ شابٌّ تعيس, زريّ الهيئة, يبدو مصابًا بمرضٍ عضال, عمره تسعة عشَر عامًا, واسمه “جافريلو برينسيب”, فانتهز الشابُّ الفرصة التي جاءته على غير انتظار, وقفزَ مباشرة واعتلى جانبَ السيارة وأطلق الرصاصَ مباشرة فأصاب الأرشيدوق وزوجته, وحاول تاليًا الانتحارَ بإطلاق النار على نفسه, لكن خطته الصغيرة الأخيرة فشلتْ وألقيَ القبض عليه. بحلول الحادية والنِّصف من صباح هذا اليوم كان الزوجان قد ماتَا, ماتت “صوفي “أوَّلًا على ساقي زوجها, ولحق “فرانز” بزوجته بعد عشْر دقائق وحسب من موتها, وخلالَ ساعات كان نعيقُ الحرب ينعق فوق أوروبا داعيًا النمسا إلى الانتقام من صربيا, وروسيا إلى مناصرةِ الأخيرة, وانشقَّ العالم كتلتين متحاربتين في أول حرب عظمى عرفَها العالم. صرَّح القاتل أنه لم يكن يقصد قتلَ “صوفي”, بل أراد قتلَ الأمير وحاكم سراييفو وحسب. أخيرًا يعدُّ هذا الحادث أكثرَ حوادث الاغتيال كلفةً في التاريخ, إذ كبَّد العالم نحوَ عشرة ملايين من القتلى وضعفهم, وربَّما أكثر من الجرحى, غير الخسائر المادية الهائلة.
إنه حقًّا واحدٌ من أكثر أخطاء التقدير والحكم على الأمور فداحةً في الثمن!