يُقالُ بأنّ من يتحكم بالإعلام يتحكم بالعقل. يبني ثقافةً ويهدِمُ أُخرى. يصنعُ الواقعَ حاضِراً، ويرسُمُ المستقبلَ آجِلاً. فعصرٌ جديدٌ من الإعلامِ أمسى فيهِ قادراً على تقديمِ الأفكارِ والمعلوماتِ بأنجعِ السُبل، وذلك من خلالِ وسائل عديدة عُرفت بـ“الإعلام الجديد”. ومع ربطِ “الشبكة العنكبوتية” للعالمِ ببعضه، وتحويلهِ إلى “قرية صغيرة”، بُنيت على متنِها آلاف الكِيانات الإخباريّة والتعليميّةِ وغيرها، والتي وجدت طريقها إلى الفردِ من خلالِ شاشة هاتفهِ أو حاسوبه، والتي لا تكادُ تفارقه، بِتنا على مشارِفِ بناء مُجتمعٍ جديد.
ولادةُ مُجتمعٍ جديدٍ متشبّع بأفكارٍ وثقافاتٍ متنوّعةٍ نافِعة، تكونُ من خلالِ تنشئةِ الطفلِ على تلك الأفكار، فالأطفالُ يولدون صفحةً بيضاء. ولعلّ “الإعلام الجديد” قد تكفّل بتغذيةِ عقولِ أطفالنا. فبعيداً عن سلبيّاته، تتمثّل أهميّة الإعلامِ الجديدِ بكونه الأداة الأبرز لتثقيفِ الفردِ والمجتمع، ولبناء الثقافاتِ وتنشئة العقولِ وتغذيتها، ولتعزيزِ إدراكِ الإنسانِ بنفسهِ وما يدورُ من حوله، ولإيصالِ الحقيقةِ ونقلِ تفاصيلها، فالإعلامُ الجديدُ وسيلةٌ مهمّة لبناءِ مُستقبلٍ أفضلَ وأكثرَ وضوحاً لأطفالنا. فوضوحُ مستقبلِ الإنسانِ يكُونُ بوضوحِ حاضره، وقد مكّن الإعلام الجديد الإنسان من الإلْمَامِ بحاضرهِ، بِمدّهِ بكُلِّ وسائلِ المعرفةِ المُمكِنة.
يُبقي الإعلام الجديد المرء طالباً لو شاء، وإن لم يكُن طالباً مدرسيّاً تقليديّاً. فطلبُ العلمِ بات أيسرَ وأفضلَ من أيّ وقتٍ مضى. مكّن المرء من التعلّمِ دونِ حدٍّ يحدُّه، وُفّرت له الدورات والندوات ومحتوياتٍ تعليميّةٍ عبر الإنترنت، والتي بات يقدمها آلافٌ اليوم. فوسائلُ التواصلِ الاجتماعيِ مكانٌ رائعٌ لطالبي العلمِ للعثورِ على معلمينَ ومناهجَ تعليميةٍ، أوْ مدربينَ ببرامجَ تدريبيةٍ، وذلكَ لتعلمِ مهاراتٍ جديدةٍ واتخاذِ خطواتٍ نحوَ أهدافٍ مهنيةٍ مستقبليةٍ. فبات يُقالُ بأنّ “حُدُودَ التعلّمِ كحدودِ السماء”، لعدمِ وجودِ حدٍّ لإمكانيّة تعلّمِ المرءِ وإستمدادهِ للمعرفة. فمع الإعلامِ الجديد أمسى الإنسانُ قادراً على أن يستقي عِلماً ويصقل مهاراتهِ بواسطة وسائل التواصلِ الإجتماعيّ.
فقد أصبحت وسائل التواصلِ الإجتماعيّ أفضل سُبلٍ للتعلّمِ، أو حتى للترفيه. فمن الراديو إلى البودكاست، ومن قنواتِ التلفزيون إلى قنواتِ YouTube. نقلةٌ جديدةٌ من إعلامٍ تقليديٍّ يرى ويسمعُ المرءُ فيهِ ما يُعرضُ وما يُبث، إلى إعلامٍ جديدٍ ينتقي فيهِ ما يُريد في الوقت الذي يُناسبه. فبدلاً عن ماضٍ إعلاميٍّ كانت محطات الراديو أو التلفزيون تقدِّم مُحتوىً محدوداً فارِضةً إيّاهُ، بِتنا نحظى بعشراتِ المنصّاتِ الرقميّة الغنيّةِ بكلّ شيء. أنواعٌ مختلفةٌ من المُحتويات، بين أخبارٍ تُلبي المنصاتُ ما تتطلبهُ من سرعةٍ ودقّةٍ في إيصالِ المعلومة وتحديثها وتجديدها، ورياضةٍ وسفرٍ وسياسةٍ ودينٍ ورسومٍ متحركة. فقد صُمّمت مواقع التواصلِ الإجتماعيّ لمواكبةِ التغييراتِ والمستجدّات سريعاً.
كما وأنه لطالما كان الإعلامُ الجديد مُنطلقاً لأعظمِ الشخصيات. فمعَ كونهِ الوسيلة الأنجحَ والأقلّ كُلفةً، كان للإعلامِ الجديدِ بوسائلِ التواصلِ الإجتماعي الفضلُ ببدايات كثيرٍ من العُظماء، وإنطلاقِ أُولى شرراتِ إبداعهم. حتى أولئك المغنّون والنجوم الألمع. فلم يُكن “جاستن بيبر” ليعتلي القِمّةَ لولا مقطعِ فيديو لهُ نُشر على YouTube. كذلك “شون مينديز”، “تشارلي بوث”، “أليسيا كارا” وغيرهم الكثير، كُلّهم مغنّون لمعَ نجمُهم بالطريقةِ ذاتها. أتاح لهم الإعلامُ الجديدُ مشاركة شغفهم مع العالم، ومكّنهم من تحويله إلى عملٍ ونمطِ حياة.
وبعيداً عن كونِها مُنطلقاً للمبدعينَ، بدى أن الحملات التوعويّة أكثر إثماراً في الإعلامِ الجديدِ ووسائطه، إذ تُعتبرُ وسائل التواصلِ الإجتماعيّ مُنطلقاً فريداً وشائعاً للحملات التوعويّة لزيادة الوعي بقضايا نُؤمن بها، وتقديم الدعم لِمن في أمسِّ الحاجةِ إليه.
كما ويمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تُمكِّنَ الفردَ إكتشافِ شغفه، وتمكّنهُ من العثور على مجموعاتٍ من الأشخاص المتشابهين في تفكيره، فتُبنى صداقاتٌ على أساسِ الشغف، فأن تكون جزءاً من مجتمعٍ هادفٍ متماسكٍ يبعثُ الشعورَ بالتقدير والرضى.
ورغمَ الأميالِ التي قد تفصِلنا عن من نحب، تقرّب وسائل التواصل الاجتماعي المسافات، لتجعلها أقصر وتجعلنا أقرب. تجمّعنا رغم تفرّقنا، وتجعل العائلة والأصدقاء معاً رغم البُعاد. فإرسال الرسائل ومشاركة الصور والإتصال وإجراء محادثات الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي بات يُبقينا على إتصال، حتى مع أولئك القاطنين في الجانب الآخر من العالم. كم وثّقت مواقعُ التواصل الاجتماعي من عِلاقات، وكم جمّعت أُناساً بعد شتات، وبظهورها كم عاد وِصالٌ بعد إنقطاع سنوات. يعودُ فضلُ هذا المستوى من الإتصال إلى “الإعلامِ الجديد”، فربط العالمِ بوسائل التواصل الاجتماعي ميزة فريدة من مزاياه.
الإعلام الجديد والطفل
تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال بمختلف أعمارهم، إمّا بإساءة إستخدامٍ، أو تعرّضٍ مباشرٍ للأذى. ومع أنّ معظم منصات التواصل الاجتماعي تتطلب أن يكون عمر المستخدمِ 13 عامًا أو أكثر، إلّا أنّ تقريراً قد وجد أن غالبية الأطفال دون سن 13 عامًا لديهم حسابات على مواقع التواصل الإجتماعي. فكيف يُمكِنُ للإعلام الجديد إن يؤثّرَ بالأطفال دون هذا السنّ؟
كثيراً ما ينتجُ عن إدمان الأطفال لوسائل التواصل الاجتماعي ضعف الإدراك واللغة والمهارات الاجتماعية والعاطفية، وغالباً الإنعزال عن العائلة. حالةٌ تستدعي إنتشالَ الآباء لأطفالهم من الإنعزالِ، وذلك بالتفاعل الإجتماعي معهم، ما يؤدّي إلى تحسّنٍ في الإدراك واللغة والمهارات الاجتماعية والعاطفية لدى الأطفال.
منذ سنواتٍ طِوال لاحظ علماء النفس آثاراً سلبيّةً لوسائل التواصل الاجتماعي إنعكست على الصحة العقلية للأطفال. كما أفادت نتائج إحدى الدراسات بأن الأطفال الذين يقضون أكثر من ثلاث ساعات يوميًا على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر عرضة لضعف الصحة العقلية، فإنغماسهم في عالمٍ افتراضيٍّ يؤخر نموهم العاطفي والإجتماعي.
القلق والإكتئاب والإضطرابات النفسية وأعراضٌ أخرى وخيمة، جميعها يُمكن أن تكون حصيلةَ إهمالٍ لطفلٍ فُتِحت لهُ أبواب الإعلامِ الجديدِ على مِصراعيها، فالإفراطُ اليومي في استخدام وسائل التواصلِ الإجتماعيّ قد تكونُ سبباً لتأثيراتٍ سلبيّةٍ تضُرّ بصحة الأطفال والمراهقين، فضلاً عن جعلهم أكثر عرضةً لمشاكل مستقبليّةٍ أسوأ. هو الإعلامُ الجديد، يبني ويهدِم، ويشيّدُ ويَهُد. فليسَ للأمرِ جانِبٌ واحدٌ فحسب، بل تتركُ كلا جانِبيه آثارها. إذ تلعب وسائل الإعلام الجديد أيضاً أدوارًا مهمّة في تنمية حياة الطفل، بدءاً من مساعدتهِ على فِهمِ العربيّة في الصغر، حتى تعلّمِ أنواعٍ مختلفة من المهارات الإجتماعية والعاطفية، ويمنحهُ الكثير من المعلومات والمعرفةِ؛ ليصبح أكثر ثقةً وقدرةً على المضي.
ومع كُلّ ما قد يبدو في الإعلام الجديد من سلبيّات، يبقى بما يحتويه من مواقع تواصلٍ مفيداً للفردِ والمجتمع. غيّر الحياةَ بِمُجملِها، مكّن الأفراد من التواصل وتوثيقِ علاقاتهم، شجّع الطلاب على التعلّم والتزوّد بالمعرفة. وفيرةٌ تلك الآثار الإيجابية لوسائل التواصل الاجتماعي، فوفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد، يعزّزُ الإستخدام الروتيني المُعتدل لوسائل التواصل الاجتماعي من السعادةِ الإجتماعية، والسلامة البدنيّة، والصحة العقليّة. فمع توخّي الحذر والحفاظِ على أنفسِنا من إدمانها، يتسنّى لنا توظيفُ مواقع التواصل الإجتماعي لخدمتِنا، لإلهامِنا وتثقِيفِنا وتوثيقِ عِلاقاتِنا.