تعتبر اللغة العربية من أثرى اللغات من حيث المعانى، والمفردات، والمقاصد، ويجب الإنتباه جيدا عند النظر إلى سياق الجمل في اللغة العربية فقد نجد أن هنالك حرف يغير سياق المعنى للجملة بالكامل، ويعطى للجملة معنى خلاف المعنى الذى طرأ على مخيلتك للوهلة الأولى، وبما أن القرآن الكريم هو المرجع الرئيسى للفصل في الإشكالات اللغوية فنجد على سبيل حرف “لولا” وهو حرف إمتناع الإمتناع فحين يقول الله تعالى ” ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه” هنا قد يطرأ على مخيلة القارئ أن يوسف عليه السلام قد هم، ولكنه تراجع لسبب ما، وهو رؤية البرهان، ولكن لو تأملنا السياق جيداً مع التدقيق في تأثر حرف “لولا” على سياق الجملة لوجدنا أن الهم لم يأتي، ولم يطرأ على مخيلة نبي الله ورسوله يوسف عليه السلام، وذلك لأن حرف “لولا” قد نفى وقوع الحدث كما نقول مثلاً زرتك لولا فلان عندك فهذا يعني أن الزيارة لم تحدث لأن حرف “لولا” نفى وقوع الحدث، وهو الزيارة لعلة وجود فلان عندك، وكذلك الأمر في الآية الكريمة فإن “لولا” أيضا قد نفت وقوع الحدث، وهو الهم لعلة رؤية البرهان، وهذا يعني أن رؤية البرهان قد سبقت الهم فمنعت وقوعه، وهذا ما عبر عنه حرف “لولا” وهناك أيضاً حرف ” أو” والذي يستخدم إما للتشكيك أو للتخيير فحين نقول هذا محمد أو علي، هنا نجد أن حرف ” أو” دل على التشكيك، ولكن حين نقول أعطني مأة ديناراً أو مأتين، هنا تصبح ” أو ” للتخيير، وغالباً ما يكون التشكيك، والتخيير بين شيئين متناظرين سواء إسمين أو فعلين أو عددين… إلخ ولكن لو تأملنا قوله تعالى “وأرسلناه إلى مأة الف أو يزيدون ” نجد أن “أو” هنا فصلت بين عدد، وهو مأة الف، وبين الفعل المضارع يزيد، والفعل المضارع كما نعلم هو ما دل على الحال، والإستقبال فالحال يعكس الواقع، والإستقبال يعكس القادم فالواقع أن عدد المرسل إليهم مأة الف، والقادم مستقبلاً هى الزيادة التى ستطرأ عليهم، وهذا يعني أنهم مأة الف قابلة للزيادة، لأن المضارع يدل على استمرارية التعاطي مع الحدث، وهذا ما أشارت إليه “أو” حين فصلت بين العدد، والفعل المضارع، ولو إنتقلنا إتجاه آخر إلى حيث الإسم الموصول “الذي” في قوله تعالى “وهو الذى في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم” فقد يظن القارئ أن هناك إله في السماء، وآخر في الأرض، وحاشا لله من ذلك، فلو تأملنا الآية نجد أن الصفتين جائتا نكرتين، وهما صفة الألوهية في السماء، والالوهية في الارض، وهذا يقتضي وجود إثنين من الآلهة، ولكن حين جاء الإسم الموصول “الذى” نجد أنه حول النكرة إلى معرفة فمثلاً حين نقول في البيت رجل، وفي الشارع رجل. فإننا بذلك نشير إلى رجلين، ولكن حين نأتي بالإسم الموصول، ونقول الذى في البيت رجل، وفي الشارع رجل فإننا نشير بهذا إلى رجل واحد لأن الإسم الموصول جاء مفرد، وليس مثنى أو جمع، ولذلك جعل من الرجلين النكرة رجل واحد معرف، أي أن الرجل الذى في البيت هو ذاته الذى في الشارع، ولو انتقلنا إلى قوله تعالى “وهو الذى يقبل التوبة عن عباده” فحين ننظر إلى الآية الكريمة نجد أن حرف من هو المناسب بدلاً من حرف “عن” لأن التوبة تقبل من، وليس عن كأن تعتذر لشخص فيقول قبلت منك الإعتذار، وليس قبلت عنك الإعتذار، ولكن لو تأملنا كيفية تعامل الله تعالى مع المعصية، والتوبة منها سنجد أن حرف عن في موضعه الصحيح فالمعصية تقابلها صفة المنتقم، القهار، والجبار…إلخ من صفات الجلال، وحين يتقدم العبد بالتوبة فإن الصفات التى تقابل التوبة هى صفات الجمال كالغفور، الرحيم، الحليم…إلخ من صفات الجمال، وكأن صفات الجمال هى من تتلقى توبتك، وتشفع لك عند صفات الجلال، وهذا ما يوضحه قوله تعالى ” وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه” أي، وظنوا أن لا ملجأ من الجبار إلا باللجوء إلى الغفار. هذا والله تعالى أعلى وأعلم.