أصدرت محكمة العدل الدولية “قرارًا” في الدعوى المقامة من دولة جنوب أفريقيا، والتي طالبت فيها جنوب أفريقيا بإلزام إسرائيل بوقف الحرب في غزة، ويثور هنا سؤال مُلحّ.. وماذا بعد؟.
بادئ ذي بدء، فما أصدرته المحكمة هو “قرار” وليس حكمًا، لِنقُل هو قرار شارح، أو قرار مبدئي، تضمّن إعتبارات متعلقة بالنظام الأساسي للمحكمة، ومطابقة الدعوى المرفوعة من دولة جنوب أفريقيا، لمتطلّبات النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.
قالت جوان إي دونوجيو/رئيسة هيئة المحكمة: “أن المحكمة لن ترفض الدعوى التي تتهم إسرائيل بإرتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة” وهذ ليس حكمًا، إنما هو قرار من المحكمة بصلاحيتها وإختصاصها بنظر الدعوى.
وقررت: “أن دولة جنوب أفريقيا لها الحق في رفع دعوى ضد إسرائيل، والإجراءات القانونية التي إتبعتها دولة جنوب أفريقيا، سليمة”
وبيّنت: “أن محكمة العدل الدولية تؤكد إختصاصها القضائي في نظر دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل” بمعنى أن المحكمة طبقت المادة
وأردفت: “أن بعض الحقوق التي تسعى دولة جنوب أفريقيا للحصول عليها، منطقية” وهنا يبدو أن المحكمة يمكن أن تستخدم ما يخوله لها النظام الأساسي للمحكمة (م:38 من النظام الأساسي) من إستخدام قواعد الإنصاف، في نظر الدعوى.
كما قالت: “أن محكمة العدل الدولية قلقة بشأن سقوط خسائر في صفوف المدنيين بقطاع غزة” لاحِظ الصياغة اللغوية، وإنتقاء الألفاظ في القرار، فالمحكمة لم تصف قتلَى غزة بلفظ “قتلَى” أو “ضحايا” وإنما “خسائر” وذلك لإعطاء المحكمة نفسها متّسعًا، من تضمين قرارها ألفاظًا يمكن أن تشكل إتهامًا أو حكمًا.
واصلت رئيسة هيئة المحكمة: “نقر بحق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية” وهنا يجب أن نتوقف كثيرًا، فالمحكمة هنا تشير إلى إتفاقية منع وتجريم الإبادة الجماعية، وهي إتفاقية دولية أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1948 وكانت إسرائيل من بين الدول الموقّعة على الإتفاقية.
بما يعطي المحكمة إختصاصًا وصلاحية واضحَين لنظر الدعوى، لأن إختصاص محكمة العدل الدولية لا يطبق إلا بشروط، حددها النظام الأساسي للمحكمة، ومن بينها أن تكون الدولة المدّعَى عليها موقعة على إتفاقية دولية، ثم خالفت تلك الدولة أحكام الإتفاقية التي وقّعت عليها.
و واصلت: “أن المحكمة ملتزمة بمعاقبة من ينتهك إتفاقية الإبادة الجماعية”.
وأكملت: ” أن بعض الإتهامات ضد إسرائيل تقع ضمن أحكام إتفاقية الإبادة الجماعية”.
و واصلت: “أن إسرائيل شنت عملية عسكرية واسعة النطاق في غزة عن طريق البر والبحر والجو مما تسبب في وقوع خسائر فادحة صفوف المدنيين وتدمير واسع النطاق للبنية التحتية المدنية وتشريد الغالبية العظمى من سكان غزة”.
وأكملت: “أننا لا يمكننا التأكد من صحة الأرقام المذكورة حول عدد الضحايا في قطاع غزة”
وبيّنت: “أن المحكمة تشير إلى أن العملية العسكرية التي نفذتها إسرائيل أسفرت عن عدد كبير من القتلى والجرحى، فضلًا عن تدمير هائل للمنازل، والتهجير القسري للغالبية العظمى من السكان، وإلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية المدنية” وهنا يظهر أول كلام جاد يحمل صيغة الإتهام لإسرائيل، من وجهة نظر المحكمة.
وأردفت: “أن غزة باتت مكانًا لا يصلح للعيش، وتوجد أزمة إنسانية هناك”.
و واصلت: “أن محكمة العدل الدولية ستفرض تدابير طارئة في قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل” وهو ما يخوّله ميثاق أمم المتحدة للمحكمة (م:94 ـ ب:2 من ميثاق الأمم المتحدة) في حال إستشعرت المحكمة أن أمد نظر الدعوى سيطول، بما يُوِقع على أحد أطراف الدعوى مزيدًا من الخسائر، أن تصدر المحكمة قرارًا بإجراءات إحترازية أو مؤقتة.
وختمت قائلة: “أننا غير قادرين على إطلاق حكم قطعي الآن، والقضية قد تستغرق سنوات” وهدة العبارة هي أهم وأخطر ما في بيان رئيسة هيئة محكمة العدل الدولية، وهي تعني أن علينا ألّا ننتظر حكمًا من المحكمة قبل مرور 3 سنوات على الأقل، وهذا ما تعنيه لفظةُ “سنوات”.
وبتفاؤلٍ نقول: أن أقصى ما يمكن أن نتوقعه، بوصفنا متعاطفين مع شعب غزة، أن تصدر محكمة العدل الدولية قرارًا بوقف إطلاق النار في غزة، وللتوضيح.. فإن قرارًا كهذا من محكمة العدل الدولية، لا يملك آلية تنفيذية، وعندما يصدر ـ إذا صَدَر ـ فعلينا أن نرى رد فعل إسرائيل تجاه القرار، ولسوف تهمل إسرائيل القرار غالبًا، كما إعتادت فعله من إهمال لكل القرارات الدولية التي صدرت ضدها، منذ إنشاءها.
وفي هذه الحالة ستقوم المحكمة بإبلاغ مجلس الأمن الدولي لإتخاذ شئونه نحو تنفيذ القرار، وهنا لا يمكننا توقّع ما قد تسير عليه الأمور في ظل خضوع مجلس الامن الدولي (وفقًا لنظامه الأساسي) لحق الفيتو للدول الخمس الكبرى، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، فكيف سيكون موقف محكمة العدل الدولية؟.