درج المؤرخون على تحديد مقاييس الأوقات بكل وحداتها طبقاً لمنازل القمر كما كان سائداً في معظم الحضارات القديمة والتقويم الهجري الآن، والذي يتحدد عليه ركنين من أركان الإسلام (صوم رمضان والحج)، أو وفقاً للحركة الظاهرية للشمس كما كان عند الفراعنة وما تبعه من التقويم القبطي ثم التقويم الميلادي اليولياني والجريجوري.
وكما كانت الظواهر الفلكية من تتابع شروق وغروب الشمس وتنامي بنية القمر تُشَكَّل حركة سياق مرور الدهور وتوالي الأزمنة، كان لكل زمان تفسيره لتلك الظواهر.
فلقد بات الاعتقاد السائد في العصور القديمة طبقاً لرؤى فلاسفة الإغريق وفلكيها إن الأرض هي مركز الكون، وإنها ثابتة، وإن الشمس هي التي تتحرك، وساد هذا الاعتقاد في العصور الوسطى، وتم معاضدته بقوة من قبل السلطة الروحية.
فكان صوت الهرطقة قوياً صاخباً، وسوتها مسلطا لاسعاً، والهرطقة في الفكر الكنسي الأوروبي يقابله مصطلح الزندقة في التشريع الإسلامي ليس على مستوي التشابه في الإيقاع اللفظي لهما فحسب، بل في المعني والمبني على السواء، فمثلما يمثل إنكار معلوم من الضرورة في الإسلام من قبل معتنقيه زندقة يقام على صاحبها حد الردة في ظل الشريعة الإسلامية، عدّ الخروج عن تعاليم الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى هرطقة يودي بصاحبها إلى المقصلة.
ولقد اتخذ البابا “جريجوري التاسع” عام 1231م قراراً بإنشاء مؤسسة مستقلة تتفرغ لاقتلاع وقتل الهراطقة والسَحَرة، فتم إنشاء محاكم التفتيش التي أبادت أكثر من مليون هرطيق خلال عملها.
فلقد حاصرت الكنيسة العقول الحرة، وحاولت بكل قوة أن تحجر عليها، وإنها لم تعترف بالحرية الفكرية، إلا تلك التي تدور في فلكها وتوافق هواها.
ولم تقتصر تهمة الهرطقة وقتها على مخالفة نصوص الكتاب المقدس، بل طالت نقد نظرية مركزية الأرض اليونانية بدعوى إنها تتوافق مع نصوص الكتاب المقدس نفسه.
ومع بزوغ النهضة في أوروبا وما صاحبها من ازدهار في الفنون والآداب وتقدم في العلوم الطبيعية ومن ضمنها الفلك، استتبع ذلك إعادة النظر في نظرية مركزية الأرض اليونانية، ودحضها من قبل الفلكيين الأوربيين.
فمر الارتداد عن نظرية مركزية الأرض بمجموعة من المراحل بدأت أولها علي يد العالِم “كوبرنيكس” والذي فسر تحرك الأجرام السماوية في السماء نتيجة لدوران الأرض في الاتجاه المعاكس، ولقد تأسست نظريته على عنصرين هامين هما: إن الكواكب تدور في فلك حول الشمس، والأرض واحدة من هذه الكواكب وتدور حول محورها.
ولم يخضع العالم “كوبرنيكس” لتهمة الهرطقة مثل لاحقيه لأسباب عدة منها توخيه الحذر في عرض مبادئ نظريته بطريقة متدرجة في سلسلة من المحاضرات في إيطاليا دون أن يثير الكنيسة، ولم يُنشر كتابه الخاص بتلك النظرية إلا يوم وفاته عام 1543م، ولم تكتمل نظرية كوبرنيكس إلا بقيام كبلر بتوفير الأدلة الحسابية لها.
أما عن جاليليو فقد أثبت صحة نظرية “كوبرنيكس” بشكل عملي باستخدام التليسكوب.
ومَثَل “جاليليو” في اليوم الثاني من شهر يونيو لعام 1633 أمام محكمة تفتيش مكونة من عشرة كرادلة ليحققوا معه ويتهموه في النهاية بالهرطقة، وأجبروه على الاعتراف بذلك، بالرغم من قيامه بنشر كتابه (الحُوَار) الذي يحوي ما تم اتهامه به على هيئة حوار بين من يقول بثبات الأرض ومن يقر بدورانها فلا تبدو النظرية على لسانه بناءً على نصيحة من صديقه “مافيو بربيني”الذي أصبح فيما بعد البابا “أوربان الثامن”.
وأدلى “جاليليو” باعترافه، وأقسم على احترام معتقدات الكنيسة الكاثوليكية وعلى ألا يعود لمثل هذه الأفكار مرة أخرى وهو يتمم في نفسه (E pur si muove) ولكنها تدور!
وكانت نهاية الفلكي “جورداني برونو” الذي اعتنق نظرية كوبرنيكس أسوأ مما لاقاه جاليليو حيث عوقب حرقاً في روما في ساحة “كامبو دي فيوري” بتهمة الهرطقة.
ولكن باتت نظرية مركزية الأرض للكون من مخلفات الماضي وهرتلة (دارجة مصرية بمعنى القول بمخالفة الواقع) بعد اكتمال الفلكي الألماني “يوهانز كبلر” من وضع قوانينه الخاصة بمركزية الشمس وحركة الكواكب حولها.
وأمست كُرَوِيّة الأرض ودورانها حول الشمس من المسلمات الواضحة بعد غزو الإنسان للفضاء وتصوير الأقمار الصناعية لها.
وتم تلقين تلاميذ المدارس دلائل كُرَوِيّة الأرض ودورانها حول الشمس، وحفظوها عن ظهر قلب، وردت الكنيسة الاعتبار لمن أُدينوا بتهمة الهرطقة.
وبعد الوصول إلى تلك الحالة من اليقين المطلق بكروية ودوران الأرض، ظهر تيار عارم يقر بالقول بثبات وتسطح الأرض ودوران الشمس حولها مستدلين على ذلك بأدلة علمية رصينة، وسمى هؤلاْء أنفسهم (المسطحون) مقابل (الكرويون).
وفي عام 1956 قام “صامويل شاتون” بتأسيس الجمعية الدولية لبحوث استواء أو تسطح الأرض بمدينة “دوفر” البريطانية.
وقدم “إيريك دوبا” الكثير من الدلائل والبراهين على تسطح وثبات الأرض في كتابه (مؤامرة الأطلسي)، ومن أبرز علماء العرب القائلين بثبات الأرض ودوران الشمس حولها الطيار السوري الكابتن “نادر جنيد”.
كما شارك علماء الدين من المملكة العربية السُّعُودية بتحريم القول بكروية الأرض، وشاركت قناة الجزيرة الوثائقية في قطر ببث فيلم وثائقي تناول هذا الأمر بالتفصيل.
وهكذا وصل الأمر إلى ما كان يوصف بالهرتلة العلمية، وبأساليب وبراهين علمية، بل تم اتهام علماء الفلك القائلين بكروية ودوران الأرض بالهرطقة مرة ثانية ولكن ليس بنازع ديني من رجال دين، أو بوازع فئوي من مهرتلين، بل بواقع علمي رصين من علماء فلكيين!
اتمنى ان افوز