ليلة التاسع من نوفمبر التي مثلت نقطة تحول ليهود ألمانيا، بسببها أدركوا أن لا مستقبل لهم بتلك الدولة، وكانت بمثابة نقطة فاصلة لسياسة النظام النازي الألماني الذي كان يهدف في الأساس إلى إزالة الجالية اليهودية من أوروبا بأكملها، كانت تلك الليلة تحمل في طياتها الموت والدمار وتُنذر بالحدث الأكبر الذي عُرف باسم “الهولوكوست”، تلك المحرقة التي قُتل فيها الملايين من اليهود على يد زعيم ألمانيا النازي “أدولف هتلر” في الفترة بين عام 1941 حتى عام 1945، إنها ليلة البلور “ذكرى الزجاج المكسور” أو ليلة الكريستال كما تُعرف أيضًا.
أحداث وأسباب ليلة الكريستال
في ليلة السابع والعشرين من نوفمبر بدأت السلطات الألمانية باعتقال عشرات الآلاف من اليهود الحاملين للجنسية البولندية تمهيدًا لترحيلهم إلى بلدهم صباح الثامن والعشرين من نوفمبر عام 1938، وكان من بين هؤلاء المُرحلين عائلة شاب يهودي يُدعى “هيرشل جرينزبان” كان يُقيم في باريس، وقد عرف بما حدث مع أسرته بعد أن تلقى بريد من شقيقته ليُقرر الانتقام لهم، استغل “جرينزبان” إقامته بالأراضي الفرنسية وقرر التوجه إلى السفارة الألمانية لتنفيذ عملية الانتقام؛ حيث أبلغ الموظفين بضرورة تسليم وثيقة مهمة للسفير الألماني بشكل شخصي، وما إن وصل إلى سكرتير السفارة أطلق عليه 5 طلقات ليُصيبه بجروح خطيرة.
كان اغتيال دبلوماسي ألماني على يد الشاب اليهودي البالغ من العمر سبعة عشر عامًا هو شرارة الغضب التي نتج عنها أحداث ليلة الكريستال؛ حيث أطلق “جرينزبان” النار على “إرنست فوم راث” في باريس يوم 7 نوفمبر، وتم إعلان وفاته بعد يومين -إثر إطلاق النار- في التاسع من نوفمبر 1938 اليوم الذي صادف ذكرى انقلاب 1923 المعروف بـ “بير هول”، حينها كان يجتمع قادة الحزب النازي بمدينة ميونخ لإحياء تلك الذكرى المهمة ليأتيهم خبر وفاة “إرنست فوم”، هذا الخبر الذي دفع “جوزيف جوبلز” وزير الدعاية الألماني إلى إلقاء خطابًا حماسيًا معاديًا للسامية.
أكد “جوزيف جوبلز” في خطابه على أن اليهود قد تآمروا للقيام بعملية الاغتيال مُشيرًا إلى موافقة “أدولف هتلر” على تظاهر المدنيين المُحتجين على هذا الحادث دون منعهم، وبعث الألماني “راينهارد هايدريش” قائد شرطة الأمن برقية عاجلة إلى قادة محطات الشرطة والأحياء وجيش الإنقاذ تحتوي على عدة أوامر تمثلت في:
- عدم إلحاق أي ضرر بحياة وممتلكات الألمان غير اليهود.
- استهداف الأجانب فقط بما فيهم اليهود غير الألمان.
- التأكد من حذف الأرشيف بالمعابد والممتلكات الخاصة بالجالية اليهودية وتسليمه إلى جهاز الأمن.
- اعتقال أكبر عدد من اليهود الشباب والرجال ذوي الصحة الجيدة.
هذا وقد بدأت المظاهرات وأحداث العنف في ليلة التاسع والعاشر من نوفمبر 1938 في دولة ألمانيا بالكامل والنمسا وبعض مناطق زوداتنلاند في دولة تشيكوسلوفاكيا التي احتلتهم القوات الألمانية، وعلى إثر تلك الانتفاضة تم تدمير 267 كنيسًا يهوديًا وحُرق المئات من المعابد دون تدخل من قوات المطافي التي كانت قد حصلت على أوامر بالتدخل فقط لمنع انتشار النيران إلى المباني الأخرى القريبة منها، وتم إتلاف وحرق ما يقرب من 7500 محل يهودي، وبالرغم من عدم إصدار أوامر بالقتل إلا أن تلك الليلة أودت بحياة ما يزيد عن 90 يهودي، ورسمت ليلة البلور طريقًا لهجرة اليهود من ألمانيا بعد ذلك؛ حيث تم القبض على 30 ألف من اليهود الذكور أثناء الأحداث وتم ترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال بألمانيا ومن أبرزهم معسكر داخاو، وساكسنهاوزن، وبوخنوالد، وفي وقتٍ لاحقٍ حصل بعضهم على تصريحات خروج في مقابل التوقيع على بيانًا يشترط خروجهم من ألمانيا خلال ثلاثة أشهر.
لم يتوانَ النظام النازي عن فرض إجراءات قاسية تستهدف عزل اليهود تمامًا عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في ألمانيا؛ حيث استغل “هيرمان غورينغ” القائد العسكري النازي ما حدث وأعلن انتقاده للمظاهرات المعادية للسامية في تلك الليلة مُشيرًا إلى أنها تسببت في خسائر هائلة ستُجبر شركات التأمين الألمانية عن دفع تعويضات كبيرة للمتضررين، لتقوم الحكومة الألمانية على الفور بالإعلان رسميًا عن مسؤولية اليهود عن الخسائر التي حدثت في ليلة البلور 1938 ووصفوا ما حدث بأنه رد فعل طبيعي لعملية الاغتيال، ومن ثم تم فرض عقوبة مالية في العام ذاته على الجالية اليهودية بألمانيا بلغت قيمتها 400 مليون دولار، وعليه صادرت حكومة “الرايخ” كافة التعويضات التي قدمتها شركات التأمين للمتضررين من اليهود.
لم يكن هذا فقط فقد بدأت السياسات الألمانية تشتد وتتصاعد ووصلت إلى ذروتها؛ حيث أعلنت حكومة ألمانيا منع اليهود من العمل في القطاعين العام والخاص، ولم يتسنَّ لأطفالهم الالتحاق بالمدارس الألمانية، كما منعت بعض الإجراءات أحقية اليهود في ممتلكاتهم وتم تحويلها إلى الآريين، وفقدوا أحقياتهم في امتلاك السيارات ورخص القيادة، ولم يعد باستطاعتهم حضور الحفلات أو الدخول للمسارح والسينما، كانت أحداث ليلة البلور نقطة محورية في فرض سياسات التهجير القسري والترحيل النهائي لليهود نحو الشرق، فقد كان هدفهم الوحيد هو الحصول على “ألمانيا بلا يهود”، وتحويل اليهود إلى ضبابية موجودة في أعماق الأراضي البعيدة.