قد يكون أكثر ما يتحدث عنه المصريون هذه الأيام، هو أزمة الدولار، وتعويم الجنيه، والموضوعان يبدوان متلازمين، ويتم تداول هذه المواضيع الشيقة عبر وسائل الإعلام ليل نهار، وتنشغل بأخبارهما الكيانات الاقتصادية والتجارية، بل والأفراد، القلقون من تبعات تفاقم أزمة الدولار، ومن احتمالات تعويم الجنيه، مرة بعد أخرى، فما العلاقة بين المصطلحين؟.
عَرَضنَا في مقال سابق، متى وكيف وُجد الدولار، وكيف صار إلى ما صار إليه من سطوة نقدية واقتصادية على ما يعادله من عملات العالم، حتى قيام الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون بصدمته التاريخية للعالم، بإعلانه رفع الغطاء الذهبي عن الدولار سنة 1970.
وسنعرض هنا ما ألمَّ بالدولار بعد صدمة نيكسون، وظهور مصطلح التعويم، الذي انخرط فيه الإقتصاد المصري في مراحل تالية لانخراط اقتصادات كبرى في عالم الرأسمالية، ولم يكن تعويم الجنيه المصري بِدعًا في عالم الإقتصاد.
بعد إقرار إتفاقية بريتون وودز في ولاية نيو هامبشاير في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1944 بمشاركة 40 دولة، وسريان بنود تلك الإتفاقية على دول العالم الرأسمالي، وعدد كبير من دول العالم الثالث، إلا أن دول العالم الثاني، وهي دول المعسكر الإشتراكي، بقيادة الإتحاد السوفييتي، رفضت أن تكون إقتصاداتها تحت رحمة صندوق النقد والبنك الدولييَّن.
فقد كان الفكر الإشتراكي وقتها في حالة مـدٍّ متنامٍ، وكانت الدول التي تطبقه في حالة من الإستقرار الإقتصادي، إستطاعت به تجاوز الآثار السلبية للحرب العالمية الثانية على إقتصاداتها، بل ونجحت نسبيًا في تصدير تجربتها الإقتصادية لعدد من دول العالم الثالث، التي سارت على نفس النهج.
أما المعسكر الرأسمالي الذي حافَظَ على نهج بريتون وودز، وثبـَّت أسعار صرف عملاته أمام الدولار الأمريكي، فقد إتفقت 8 بنوك مركزية منهم، في 1 نوفمبر 1961 على تجميع كميات من إحتياطيات الغطاء الذهبي لعملاتهم، وضمها فيما عُرف بمجمع لندن للذهب، ضمانًا لحفظ إحتياطيات الذهب، وتثبيت أسعاره، للحفاظ على قيمة الدولار عند 35 دولار لأونصة الذهب، كما إتـُّفق عليه في بريتون وودز.
وقد ساهمت الولايات المتحدة الامريكية وحدها ب50% من رصيد مجمع لندن من الذهب، بكمية 120 طن، وكلٌ من ألمانيا الغربية والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وسويسرا، بنسب متفاوتة بال50% الأخرى.
تسبب تثبيت سعر الذهب وما تبعه من تثبيت سعر الدولار وسلة العملات المرتبطة به، في إنخفاض سعر الذهب “المثبـَّت” عن قيمته الحقيقية، أضِف إلى ذلك إضطرار الولايات المتحدة إلى التفريط في كميات من الذهب الإحتياطي لديها، لتمويل تكاليف حرب فييتنام، مما أحدَثَ خللَا في سعر الذهب في الأسواق العالمية.
فقامت فرنسا بالإنسحاب من مجمع لندن، وسحبت كمية الذهب التي تمثل غطاء عملتها، ثم ما لبث مجمع لندن أن إنهار في مارس 1968 وإنهارت معه فكرة تثبيت سعر صرف العملات أمام الدولار.
تضافر النجاح النسبي الذي حققه المعسكر الإشتراكي إقتصاديًا، مع إنهيار مجمع لندن للذهب، وإنفلات أسعار الذهب في المعسكر الرأسمالي، وفشل محاولات النَّفَس الأخير في السيطرةعلى ثبات أسعار صرف العملات أمام الدولار الأمريكي، في أن يضطر الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون، لأن يصدم العالم بقرار رفع الغطاء الذهبي عن الدولار في أغسطس 1971
في ديسمبر 1971 دَعَت الولايات المتحدة الأمريكية حلفاءها من المعسكر الرأسمالي، إلى مؤتمر سميثسونيان في العاصمة واشنطن، للإتفاق على وضع نظام جديد لأسعار صرف العملات مقابل الدولار، وتم الإتفاق على أن تربط الولايات المتحدة الأمريكية سعر عملتها على أساس سعر أونصة الذهب ب37 دولارًا، بدلًا من 35 دولار فيما سبق، أي بخفض لقيمة الدولار بمقدار 7.9% وكذلك تم تخفيض قيمة العملات الأوروبية بنسب متفاوتة.
أسس إتفاق سميثسونيان لأول عملية تعويم في التاريخ، حيث تم تعويم الدولار بالنسبة إلى الذهب، كما تم تعويم العملات الأوروبية بالنسبة للدولار، فقد تم تخفيض قيمة كلٍّ من الجنيه الإسترليني والفرنك الفرنسي بنسبة 8.6% امام الدولار الأمريكي، وكذا المارك الألماني بنسبة 13.6% والين الياباني بنسبة 16.9%
إمتدح نيكسون الإتفاقية، وإعتبرها إعادة ناجحة لتنظيم التعاملات النقدية الدولية، إلا أن تلك الإتفاقية فشلت في أن تسمح لصندوق النقد الدولي، بإستمرار سيطرة الدولار على سعر صرف باقي العملات، فتم تخفيض قيمة الدولار أمام الذهب مرة ثانية في 14 فبراير 1973 بنسبة 10% وتبِع ذلك قيام الدول الصناعية الكبرى بتعويم عملاتهم أيضًا، وتبلورت فكرة التعويم عالميًا.
متى بدأت مصر تعويم الجنيه لأول مرة
في 1977 كانت مصر منهكة من آثار الحروب المتتالية التي خاضتها في العشرين سنة السابقة، إبتداءًا من حرب 1956 ـ اليمن 1962 ـ 1967 ـ الإستنزاف ـ 1973 وإفراغ الخزانة المصرية تمامًا من النقد ومن الإحتياطي الذهبي، وقد زاد الوضع سوءًا توقف الدول العربية المنتجة للنفط، عن تمويل الخزانة المصرية بالعملة الصعبة اللازمة لإستيراد السلع ومكونات الإنتاج، مما جعل الإقتصاد المصري في حالة من الإنهيار الكامل.
هنا سيحدث أول عملية تعويم للجنيه المصري في تاريخه، حين قرر السادات بدء الإقتراض من صندوق النقد الدولي والدول الراسمالية، ونظرًا لخلو الخزانة المصرية من الدولار الأمريكي، أو أيٍ من سلة العملات المرتبطة بالدولار، فقد كان لزامًا أن تخفّض مصر قيمة عملتها أمام الدولار الأمريكي، لأول مرة في تاريخها.
كان زلزالًا إقتصاديًا مروّعًا، إنخفضت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي بنسبة 100% وبعدما كان سعر الدولار الأمريكي 1.25 جنيه مصري، قفز الدولار إلى 2.5 جنيه، هكذا مرة واحدة، وبدأ المصريون العوم جنبًا إلى جنب مع عملتهم.
وعملية التعويم قد ترتبط بصدور قرار سياسي، ولكن القرار السياسي لا يتحكم في الأرقام ونِسب إنخفاض العملة، فقد إنخفض الجنيه منذ التعويم الأول في 1977 وحتى التعويم التالي سنة 2003 من 2.5 جنيه إلى 3.4 جنيه، مقابل الدولار، وعند صدور القرار السياسي في 2003 بالتعويم، قفز إلى 5.5 جنيه، ولم يتوقف عند هذا القدر من الإنخفاض، بل إستمر بمعدلات متفاوتة من السرعة والبطء، على مدار 13 سنة.
بَلَغنَا سنة 2016 ولمّا تعمُر الخزانة المصرية بدولارات أو أيٍّ من العملات المرتبطة به، فصَدَرَ قرار سياسي جديد بالتعويم، ليصل سعر الدولار ل14 جنيه، وبدأت القطيعة بين الخزانة المصرية والدولار تتعمق، وأقسم الدولار برأس بنيامين فرانكلين ألّا يدخل للخزانة المصرية دارًا، لتستمر أزمة الدولار، ويستمر تعويم الجنيه.
طب منشوف شيخ يعملو عمل