ليلة أمسٍ وفي غضون ثلاثين دقيقة اعتدت انتهازها بعد العاشرة مساء كل يوم؛ أريح فيها ما بقِىَ نشطًا من خلايا عقلي.. وأوقظ فيها ما خمل جرَّاء عملي المنهك فكريًا، وإذ بي كما جميع لياليَّ شاردًا هائمًا على وجهي بين محطات Social media أتصفح بعضها على عَجَلٍ وأنال Transit ببعضها الآخر، فقد ساقني حظي العاثر للمرور بإحدى شعابي الفيسبوكية، حيث لفتت انتباهي إحدى غرف المحادثات الجماعية التي جذبت أعضاءها من شتى أطياف المجتمع الذين آثروا الفضفضة بعد قضاءهم لصلاة التراويح، ويكأنهم لم يجدوا مجالًا للت والعجن سوى عن الطعام والشراب؛ كعادة المصريين في رمضان يقضون يومهم منذ الاستيقاظ صباحًا وحتى النوم -إن وُجِدَ- يتساءلون عمَّا سيتناولونه على إفطار اليوم وطريقة طهيه الأفضل ما بين وصفات الشيف شربيني وابنه علاء والشيف حسن ونجلاء هانم الشرشابي وحتى الست غالية ومَن عاداهم ممن تمَلَّكوا أطراف خيوط اللعبة على مدار سنوات وسنوات؛ فراحوا يوجهون النساء من خلف الشاشات كعرائس ماريونيت لصنع ما لذَّ وطاب من الأطعمة والمشروبات على اختلافها، بَيْدَ أن المرأة المصرية في الغالب -وفي ظل الانحدار الاقتصادي الذي نعيشه حاليًا- ينتهي بها المطاف لتقشير الكوسة وهي تمُطُّ شفتيها كنوعٍ من الاستياء والبكاء على اللبن المسكوب.. بل البكاء على اللبن الذي لم تتمكن حافظة نقود الزوج بعد لشراءه ومن ثم سكبه.
وضمن كواليس فضفضات أعضاء المحادثة وبعد أن تخطى الجميع مرحلة الفطور والسحور وحرارة الفرن والرجيم والتخسيس وجلسات الساونا والجيم وغيرها، جاءت فقرة العيد الذي تعجَّلوه بحديثهم قبل الأوان بأوان، وبَدَتْ أعراض التربنة المادية في الظهور بعدما تحولت دفة الحديث من المحاشي والمشويات إلى كحك العيد والبيتي فور والغُرَيِّبَة والبسكويت وقوام عجينة كل منها والسمن البلدي الفلاحي والزبد والدهن والزيت والسكر وهَلُمَّ جرًّا.. وظل الحديث عشوائيًا هكذا حتى قال أحدهم مستنكرًا: “إيه رأيكم في علبة كحك النوتيلا أبو 1500 جنيه؟” وكانت كالصاعقة التي هزت الوجدان قبل اللسان الذي نطق بأفحش الألفاظ.. تبعته آنافٌ عدة بأصوات استنكارية شبه مألوفة في الشارع المصري على كونها رمزًا للرفض وإن كانت كذا رمزًا لانعدام التربية.
هنا تعالت الصيحات التي قطعتها باستفساري: ماذا عن مواطن مصري يعمل كموظف عام في منصب مدير إدارة تعليمية، ولم يحالفه راتبه بعد لشراء علبة نوتيلا لزوجته التي لطالما طالبته بها غير عابئةٍ بكونه موظفًا إداريًا تحت خط الفقر وفق التصنيف العالمي لذلك، بل وأصرَّت على تقييمه وفق منصبه ومُسَمَّاه الوظيفي الذي قد تتخطفه الواسطة بين عشية وضحاها؟ فيما تساءل آخر: بل وماذا عن موظف مسكين لم يتمكن من شراء كيلو جرامين اثنين من الكحك لابنتيه المتزوجتين حديثًا؟!
هاذان نموذجان من الأسر المتوسطة أو التي من المفترض كونها كذلك وقد عجز كل منهما على شراء الكحك بمفرده أو النوتيلا بمفردها.. فماذا عن شراء الكحك بالنوتيلا معًا؟!
إنها لطامةٌ كبرى نفخ في صُورِها مافيا الحلويات ومِن قبْلِهم حكومات عجزَت عن تدعيم أبسط مستلزمات المواطن الفقير من سكر وسمن ودقيق.. وبعد شدٍّ وجذْبٍ بين أطراف عدة تحول النقاش من طهي وطعام وكروش وجوعى ورجيم ووصفات.. إلى تناظر سياسي بحت تعالت خلاله الانتقادات والمعارضات تتبعها تأييدات وهتافات وشعارات كادت تُبَدِّلُ الحال لتظاهرة ميدانية على أرض فيسبوكية محايدة تستضيف مناوشات الطرفين والرشق باللايكات والكومنتات.. وقد كنت أنا منذ اللحظة الأولى متخذًا وضع الترقب منذ بدأ الحديث عن المحشي والبط والإوز والضاني والبتلو، مرورًا بالكنافة بالمانجة والقطايف باللوز والجوز والعصائر بأنواعها، وانتهاءًا بمخبوزات العيد التي أدت لنشوب تلك الثورة العارمة.. حتى فاجأني أحدهم بقوله: “أرجو لو أجبتني بصدق، ما رأيك في الكحك بالنوتيلا، وعجز المواطن عن شراء أيٍّ منهما بمفرده حتى يلجأ مبرمجو المعجنات لتصميم Update جديد يجمع ما بين الإثنين معًا؟” وبعد تفكير عميق توصلْتُ إلى كَوْنِ الكحك بالنوتيلا رغبةً لا تقاوَم، وأن شراء كلاهما Mix في نفس الكيلو الواحد يُعَدُّ كضربتَيِّ مطرقة، وقديمًا قالوا “خبطتين في الراس توجع” فأخبرته أن الكحك بالنوتيلا فريضةٌ حُلوة المذاق لمن استطاع إليه سبيلا، وسألت الله أن يرزقني وكل مشتاقٍ الحج إلى وليمة كحك بالنوتيلا في حرم محلات العبد أو مونجيني أو إيتوال أو أيٍ من مولات مصر الرحبة، ومن ثم اتخذت قراري بمغادرة الفعالية السياكحكية هذه سليمًا آمنًا؛ خاصةً وأنني لم أحصل على ترخيص أمني بالتظاهر بعد.
#إبراهيم_فايد