خناقة بين أهل الحارة وفتواتها، ضرب وتكسير واشياء تتطاير في الهواء لتصطدم بأحدهم فيخر صريعاَ، يهب أحد العقلاء منتصباَ وسط الحارة، يعلن بصوت جهير: ” عيب عليكم.. ده الذوق مخرجش من مصر “، فيعود الهدوء تدريجياَ، ويقوم المصروع ينفض الغبار عن ثيابه، والجميع يشعر بالخجل..!
فمن هو ” الذوق ” وما قصة عدم خروجه من مصر؟!
خلف باب الفتوح أحد أبواب القاهرة الرئيسية الشهيرة، والذي انشأه جوهر الصقلي لتخرج منه الجيوش الفاتحة، يوجد ضريح صغير، يعلوه قبة ذات طلاء أخضر، يعلوها قمة نحاسية، وقد كتب على إحدى واجهاته: ” ضريح العارف بالله سيدي الذوق ”
لا يكاد يعلم أحد لمن هذا الضريح؟، ومن هو الذوق؟، ولكنهم يعلمون جيداَ، أن الذوق ” مخرجش ” من مصر !
لهذا الضريح ثلاثة روايات يرويها الكاتب عباس الطرابيلي في كتابه:شوارح لها تاريخ
الرواية الأولى: أنه رجل كان يعمل بالتجارة، ويصلح بين المتشاحنين والمتخاصمين.
الراوية الثانية: أنه رجل مبارك، قرر الرحيل من مصر المحروسة، فوافته المنية على بابها، فأقام الناس له قبراً حيث مات.
الرواية الثالثة: أنه رجل مغربي عاش في مصر وحين أقترب آجله، أراد ابنائه العودة به إلى بلاد المغرب، وكان قلبه متعلق بمصر، فمات على بابها قبل الخروج !
وهناك آخرون ربما يعتقدون أنه من آل البيت ولكن هذا غير صحيح، فيما يظن أحد الباحثين ” سيد الزهار ” بأنه عاش في الفترة 1250م، ولكن المؤرخ سيد عشماوي في كتابه الجماعات الهامشية المنحرفة في تاريخ مصر الإجتماعى الحديث، يستبعد أن يكون في هذه الحقبة الزمنية، ويرى أنه جاء في حقبة متأخرة عنها، حيث أن “زمن الفتوات ” ظهر في آواخر عهد المماليك الجراكسة.
أما القصة المشهورة عن الذوق فهي كالتالي:
في آواخر عصر المماليك، وظهور الفتوات (رجال يعرفون بالقوة ويمسكون بزمام الأمور في الحارات، ويعدون بديلا عن السلطة أو ممثلون لها، كما العمدة في التاريخ الحديث، ولكن الفتوة كان ينال تلك الحظوة عن طريق قوة ذراعة، لذلك سميت بالفتوة أي القوة، وتلجأ لهم السلطة لضبط أمور الناس ).
كان الشيخ حسن الذوق، مغربي الأصل، ويعمل بالتجارة داخل اسوار القاهرة المحروسة، رجل ذو بأس وقوة، وحكمة ورجاحة عقل، وكانت له خشية وهيبة في نفوس الناس، وكان يستغل ذلك في الإصلاح بين المتشاحنين، وإيقاف المشاجرات، ووأد الفتن التي تثار داخل أسوار المحروسة. وكان الجميع يعمل له ألف حساب.. إلى أن وقع ما لم يكن في حسبانه..
دب شجار بين فتوات أحدى حارات القاهرة، فطلب مقدم القاهرة (يمثل مدير الآمن أو وزير الداخلية في العصر الحديث )، من الشيخ حسن الذوق الإصلاح بين المتخاصمين، بعد أن ضاقت بالناس أرزاقهم ويوشكون على الثورة بسبب الضيق الذي أوقعهم فيه ذلك الشجار الذي لا ينتهي، وأصبحوا غير آمنين على قضاء حوائجهم، فتدخل الشيخ حسن الذوق بما له من هيبة لإخماد تلك الفتنة والإصلاح بين الفريقين المتخاصمين..
ولكن..
ذهبت جهود الشيخ حسن سدى، ولم يوقره المتخاصمين، ولم يعملوا لهيبته وزعامته في الصلح أي إعتبار، وصار وضع الشيخ حرجاً أمام السلطات المحلية وأمام الناس، فأصابه الحزن والكمد، وقرر أن يغادر القاهرة ويخرج من مصر المحروسة إلى الأبد، حزينا يملؤ قلبه الأسف
وما أن أبصر باب الفتوح من أبواب القاهرة، ولاحت أمامه الطريق خارج السور، سقط مغشياً عليه، فما أدركه الناس إلا وقد فارق الحياة !
فأقام الناس له قبراً يشبه أضرحة الأولياء، لمكانته وقربه من قلوبهم، وجعلوه على مقربة من باب الفتوح، ليكون عظة للناس، خاصة المتخاصمين وأهل الشجار والنزاع، وليذكرهم: إن الذوق لم يخرج من مصر، وكتب على شاهد الضريح: ضريح العارف بالله سيدي الذوق.
ومرت السنين ومضى دهر يتبعه آخر، ونسي الناس قصة صاحب الضريح، وأصبح مجهولا بين الناس، رغم أن: الذوق “مخرجش ” من مصر.
لكن.. ربما خرج آخرون، الشيخ: الإحترام، والمعلم: توقير الكبير، والجدع: حماية الضعفاء.. وأخشى أن تعاود الذوق رغبته في الرحيل مرة آخرى مع من يرحلون..