يقول الفيلسوف والمفكر والكاتب الكنديُّ آلان دونو في كتابه الشَّهير «نظام التَّفَاهة» التالي: «إن التَّافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيَّام، لقد تغير الزَّمن.. زمن الحق والقيم، ذلك أن التَّافهين أمسكوا بكل شيءٍ، بكل تفاهتهم وفسادهم؛ فعند غياب القيم والمبادئ الراقية، يطفو الفساد المبرمج ذوقًا وأخلاقًا وقيمًا، إنَّهُ زمن الصعاليك الهابط»
يستطرد دونو قائلًا:«إن التَّفاهة قد بسطت سلطانها على كافة أرجاء العالم. فالتَّافهون قد أمسكوا بمفاصل السُّلطة، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصلُ والكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالخاص والعام»
فصل مجال الفنون في كتاب «نظام التَّفاهة»
وفي مجال الفنون يقول الكنديُّ:«لا تظهر التَّفاهة بشكل فجّ وصادم ومباشر في نظامنا هذا كما تظهر في ميدان الفنون، فلا بأس من إلصاق ممارسات شاذة وغريبة بالفن من أمور لا تمت إلى الفن بصلة! والطامة الكبرى في هذا الميدان تكمن في الترويج لقضايا تزعزع أسس المجتمعات وتنسف ثوابتها وعوامل اللحمة والاستقرار فيها، فليس من الضروري كي تكون «فنّانًا» في نظام التَّفاهة أن تمتلك حيثيات ومهارات معينة، وأن يكون عندك رسالة لتؤديها أو كلمة نافعة لتقولها. قل أسخف السخافات، وتشدق بأكثر الخرافات لا معقوليَّة، ولا عليك، فهذه هي البوَّابة الفُضلى لدُّخول عالم الفن بكفالة نظام التَّفاهة وضمانة أربابه»
حسنًا .. كانت هذه مقدّمة لا بُدَّ منها للولوج إلى موضوع المقال الرئيس، فالمتابع الجيّد للإعلام المصريّ يمكنه أن يلاحظ وبشكل واضح أنَّهُ -البعض طبعًا- ينفذ ما جاء بالكتاب حرفيًّا! نعم .. الدفع بالتَّافهين في الإعلام والترويج لسخافاتهم، لمضاعفة حجم المشاهدات نحو أرقام مهولة تتجاوز الملايين، وكذا صناعة «تريند» وهو ما يحقق شهرة طاغية للطرفين، سواء التَّافه أو البرنامج.
ملء ساعات الهواء بالا شيء
مؤخرًا قامت إحدى المذيعات الشَّهيرات باستضافة «تيك توكر» شهيرة تدعى سوزي الأردنيَّة، لك أن تتخيّل أن سوزي قامت ببناء شهرتها الواسعة على أساس مقطع فيديو لف مصر كلها، وربما العالم العربيّ أجمع تسب فيه والدها! بل أن الأمر تعدى حدود العقل والمنطق والعبث والجنون، عندما بدأت بعض الفنانات والشَّابات باستخدام مقطع صوتي شهير لها في تسجيل فيديوهات قصيرها وبثها للمتابعين!
مذيعة شهيرة أخرى قامت قبل عدة شهور باستضافة «تيك توكر» آخر يدعى كروان مشاكل، لا بُدَّ أن تكون كمتصفح للفيسبوك أو التيك توك قد وقعت عينيك على فيديو له يومًا ما وأصابك الغثيان منها، حيث تنتشر فيديوهاته السخيفة والهابطة والسوقية هنالك مثل انتشار النَّار في حقول الذرة، عليك أن تعرف أن الشُّرطة قد قامت باعتقال هذا الشَّاب قبل شهور بتهمة نشر فيديو فاضح له على منصة التيك توك؛ قبلما تقوم بإخلاء سبيله في وقتٍ لاحق. عزيزتي المذيعة الشَّهيرة في القناة الفضائيَّة الخاصَّة.. كيف تقومين باستضافة هذا المهرج في قناتك؟ كيف تعطيه ساعات الهواء هذه ليلقي بتفاهاته وسخافاته على المشاهدين؟ أوليس من الأولى استضافة نماذج راقية معرفيًّا وفكريًّا وفنيًّا للارتقاء بذوق المشاهد وتعريف النَّاس به؟
وعلى نفس الدرب سار الممثل إدوارد، ففي برنامجه القاهرة اليوم؛ قام باستضافة «تيك توكر» وخطيبته، زينب وإبراهيم حسبما أعتقد، كل ما تفعله زينب في حياتها هو الوقوف أمام كاميرا ووضع مساحيق تجميلية على وجهها مع موسيقى صاخبة في الخلفية أو أغنية مهرجانات! أمَّا إبراهيم فلا أعرف ما الذي يفعله في الحياة على وجه الدقة! أستاذ إدوارد.. كفاك من هذا العبث، ألم تسمع عن المثل القائل:«لا تجعلوا من الحمقى مشاهير!» الحقيقة تقول أن كل ثانية هواء تضيع عبثًا مع هذه النماذج؛ يفترض أن الأولى بها شخص جدير بالاحترام، فكريًّا فنيًّا علميًّا أدبيًّا، قل ما شئت في أي مجال.
ما العمل؟ وهل من حل؟
الحل دومًا في يد الدَّولة، عبر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والذي يمكنه بواسطة سلطته القوية بسط نفوذه، عبر فرض عقوبات صارمة على من يخرج عن النص، أو من يقوم باستضافة مثل هؤلاء المهرجين ممن يقومون بتقديم محتوى هابط، فارغ المضمون، مع مراقبة مثل هذه البرامج دومًا، هذا إن أراد الصلاح الاجتماعي لهذا المجتمع، في الجانب الآخر فقد عوّل دونو في كتابه على الدور الذي من الممكن أن تؤديه النخب المثقفة، التي عجز عن سحقها نظام التَّفاهة، فنأت بنفسها عن مؤسساته، وانسحبت من أكاديمياته، هذه النخب، على الرَّغم من قلّتها وندرتها وتشرذمها، ما تزال قادرة على أن تفعل شيئًا في وجه التدمير والتخريب الممنهجين لكوكب الأرض، إنسانيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وبيئيًّا وأكاديميًّا وفنّيًّا.