التأريخ في أدب نجيب محفوظ

 

كثيرون ربما لا يعرفون عن نجيب محفوظ أنه ترجم كتاباً من الإنجليزية إلى العربية، وذلك سنة (1932) حين كان نجيب طالباً بالسنة الثانية بكلية الآداب ـ قسم الفلسفة، وهو كتاب: “مصر القديمة” لمؤلفه الإنجليزي: جيمس بيكي (1866 ـ 1931)

صورة 1

من هذه المعلومة يُمكننا أن نتلمّس طرف الخيط الذي  نَسَجَ منه نجيب محفوظ رداءه الفكري والأدبي، وقد كانت العبارة الأولى في الفصل الأول من الكتاب، تقول: “لوسألَنا سائلٌ عن أعظم أمم الأرض حفولاً بغرائب التاريخ، لَذَكَرَ سوادُنا فلسطين، ليس ذلك لوجود شيء غريب فيها، ولكن للحوادث العظيمة التي مثلت على أرضها”

ويبدو أن أول جملة خطّها نجيب في حياته ككاتب، إستولت على زمام سيرته الأدبية الحافلة، ويبدو أن هذه الجملة الإفتتاحية، رغم أنها في الأصل بنتُ فِكر المؤلِّف الإنجليزي، إلا أن نجيب بَرَعَ في صياغتها باللغة العربية، براعة مَن يبغِي التعبيرعن شغفٍ بالتاريخ ألمَّ به.

وقد يبرُز لنا هنا تساؤل، لِمَ اختار نجيب أن يدرُس الفلسفة، في حين كان بإمكانه أن يدرُس التاريخ الذي يبدو لنا أنه كان شغوفاً به منذ بداياته المبكرة؟

نُجيب على ذلك بأن إختياره لدراسة الفلسفة، رغم شغفه بالتاريخ، كان إختياراً صائبا، فالفلسفة هي أم العلوم، ولا يستقيم لِإمريءٍ أن يُفلح في حقل التاريخ والأدب إلا بمحصول من الفلسفة.

كما أن الفلسفة، كما يقول “نيتشه”: هي ظل المعرفة، والمعرفة هي ظل العلم، والعلم هو المُنقِذ.

ثم إنه بدأ الكتابة برائعته “عبث الأقدار” (1939) التي تقُصُّ مرحلة بالغة البُعد في التاريخ، وهي الدولة القديمة من العصر الفرعوني، والشخصية البارزة فيها هي الملك خوفو، صاحب الهرم الأكبر، وكأن نجيب رام أن يبدأ مشواره الأدبي من عند السطور الأولى في التاريخ، ثم يتدرّج في سرد فترات لاحقة من التاريخ في أعمال تالية.

ثم ثَـنَّـى ب “رادوبيس” (1943) التي غَزَلَ فيها خيوط التاريخ والسياسة والدين والعاطفة، في نسيج نبّأ عن حيّاكٍ نجيب، يَخِيط المعانيَ بمهارة.

وكأنه كان ينوِي أن يتخصص في الروايات التاريخية، فألّف بعد ذلك “كفاح طيبة” (1944) القصة المشوّقة عن تحرير مصر من الهكسوس، التي أجبرتني حين قرأتُها أول مرة على أن أقرأها حتى الثمالة، وبدا فيها نجيب كمَن أتقن فنّه، وتَمَكّن منه.

وكأنه أراد أن يثِـب وثبـةً طويلةً في التاريخ، إلى بدايات القرن العشرين، فألف الثلاثية (1956 ـ 1957) التي تُصنّف في عالم الأدب بالملحمة الأدبية، وذلك لعِظم حجمها، وطولِ الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداثها، وتتالِي الشخصيات التي مثّلت دور البطولة في الأحداث، وتدور أحداث الروايات الثلاث، في أحياء القاهرة الفاطمية، ولا تخلو من مشاهِد تبين الإمتداد العمراني لمدينة القاهرة في ذلك الوقت، ويستعرض من خلالها الرحلة الزمنية لثلاثة أجيال من أحد العائلات المصرية، وتبدأ أحداثها أثناء مخاض ثورة (1919) ومروراً بأحداث مفصلية في تاريخ الأمة المصرية، إلى مابعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية.

ويبدو على كتابةِ نجيب في هذه الملحمة، البُعد الفلسفي العميق، الذي إستنطق به نجيبُ بطلَ السكرية، ليُضيف إلى خلطته في أعماله السابقة.. عنصر الفلسفة.

وفي قفزة جديدة للأمام، يكتب نجيب (1966) نبوءته “ثرثرة فوق النيل” التي دارت أحداثها في جو من الخيال والرمزية، لمجموعة متنوعة من الأشخاص اللّاهين، من بينهم الموظف المحبَط “أنيس” الذي إستنطقه نجيبُ بحال البلاد في تلك الفترة، ونقتبس هنا قول أنيس: “لم يكن عجيبأ أن يعبُد المصريون فرعون، ولكن العجيب أن فرعون آمن حقاً بأنه إله”

وهي رمزية “تاريخية” بإمتياز، أراد إسقاطها على الوضع السياسي حينها، وكأنه يتنبأ بما سيحيق بالبلاد بعد نشر روايته تلك.. بشهور.

وفي قفزةٍ إلى العِقد التالي، وفي (1974) يؤلف “الكرنك” التي تتناول أحوال مصر منذ هزيمة 1967 وحتى نصر 1973

ثم ألّف “ملحمة الحرافيش” ونشرها سنة (1979) وتناولت مسيرة زمنية لعَشرة أجيال متعاقبة،ولم يذكر فيها توارخ أو أماكن، و لكنها تمثل الصراعات الإنسانية في كل زمان ومكان.

وفي العِقد التالي، ألّف “أمام العرش” (1983) وهي بانوراما تاريخية، تبدأ من عند “الملك مينا” وحتى “أنور السادات” في إستعراض لإيجابيات وسلبيات كل حاكم لمصر، منذ فجر التاريخ المدون.

ثم يعود إلى عشقه، التاريخ الفرعوني، ويؤلف في سنة 1985 “العائش في الحقيقة” التي تترنم بأناشيد “إخناتون” الفرعون الموحِّد.

وفي (1985) أيضأ ألّف “يوم قتل الزعيم” يروي فيها الظروف الإجتماعية في مصر، المزامِنة لحادث إغتيال الرئيس السادات.

أما ملحمة “حديث الصباح والمساء” فألّفها ونشرها سنة (1987) وكان الحكي فيها بأسلوب غريب، فقد أفرد لكل شخصية في الرواية فصلاً مستقلاً، ولم يربط الروايةَ حدثٌ معين، ولاخطاً درامياً محدداً، وإنما حكيٌ عن أحوال الناس، في أجيال متعاقبة، إستغرقت قرنين من الزمان.

لم نتكلم هنا عن كل أعمال نجيب محفوظ، وإنما كتاباته المنغمسة في التاريخ، فقط، والتي يُمكن إعتبارها تأريخاً أدبياً لمصر قام به نجيب، وكذلك لم نأتِ على ما إشتمل عليه أدب نجيب من فلسفة و رؤىً سياسية ودينية، مما يُفرَد له صحائف طويلة.

ونختم بملحمة “أولاد حارتنا” التي كتبها سنة (1959) ونُشرت في مصر سنة (2006) والتي تتناول قصص الأنبياء من اول آدم إلى محمد (ص) ولكن بأسلوب الرمز والإسقاط، وقد تُعد هذه الملحمة أهم أعمال نجيب، حيث أنها تسببت له في فائدة عظيمة وضرر كبير.

أما الفائدة فقد ذكَرَتها اللجنة التي منحت نجيب جائزة نوبل سنة (1988) على أن “أولاد حارتنا” هي أهم أعماله، ونحن نعتبر أنها قد تكون ساهمت بقدر كبير في فوزه بالجائزة المرموقة.

أما الضرر، فكان أنها تسببت في قيام احد المتطرفين دينياً بمحاولة لإغتياله سنة (1994) بعدما ثار لغط واسع حول الرواية، ورفض الأزهر نشرها في مصر، وبلغ الأمر بالبعض أن كفّروا نجيب، واتهموه بالزندقة والجرأة على الله.

ودّع نجيب محفوظ “دنيا الله” يوم 30 أغسطس 2006 إثر تدهور حالته الصحية، بفعل الشيخوخة، وذلك بمستشفى الشرطة بالعجوزة، المجاور لبيته، عن عُمرٍ ناهز 95 عاماً، بعدرحلة عطاءٍ مدّها اللهُ له، ليترك لنا إرثاً فكرياً ضَـنّ أن يجود الزمان بمثله.

 


قد يهمك:

عن الكاتب:
اترك رد


جميع المحتويات المنشورة على موقع نجوم مصرية تمثل آراء المؤلفين فقط ولا تعكس بأي شكل من الأشكال آراء شركة نجوم مصرية® لإدارة المحتوى الإلكتروني، يجوز إعادة إنتاج هذه المواد أو نشرها أو توزيعها أو ترجمتها شرط الإشارة المرجعية، بموجب رخصة المشاع الإبداعي 4.0 الدولية. حقوق النشر © 2009-2024 لشركة نجوم مصرية®، جميع الحقوق محفوظة.