إن كان يعد الانسحاب من الصفات المذمومة في نواحى الحياة كافة، فهو في ميادين القتال، وساحات الوغي من الرذائل التى لا تغنفر، ومن بوادر الهزيمة وأسبابها، ومظاهر الانتكاسة ونتائجها.
فبالانسحاب تدب الفوضى العارمة في الجيش العرمرم، فتتلاشى صفوف المقاتلين، ويتآكل بنيانهم المرصوص، وتغيب الشجاعة، وتفتر الحماسة، ويدب الفزع، ويعلو على الوجوه الهلع، ويسود الموقف منطق الهرولة العشوائية.
ولكن ربما يكون الانسحاب الذى هو عنوان للفرار وعدم التثبت نقطة انطلاق للتخطيط المحكم والحركة المنظمة !
لا أقصد الانسحاب الجزئى التكتيكى القائم على تقهقهر المقدمة، حتى يتوغل الجيش المنافس، وتصبح الفرصة مواتية لهجوم الميمنة والميسرة على أجناب هذا الجيش المنافس، ومن ثم يسهل الانقضاض عليه، كما كات يفعل (هانيبال) في حروبه، وطبقها القادة المسلمون من بعده مثل ( قطز) في موقعة (عين جالوت)، فهذا الصنيع لا يقع في نطاق الانسحاب، فإن كان هناك انسحاب جزئي، فالجيش لم يغادر ميدان القتال، واحتمال النصر قائم إن لم يكن وارداً، وهذا بالطبع يتناقض مع الانسحاب وتداعياته، مظاهره وأسبابه، فهذا من الخدع الحربية، أو بمصطلح أدق وأقرب هو المناورة بالقوات.
ولا أعني فيما أتناوله أسلوب الكر والفر المتبع فيما يسمى حرب العصابات ضد الجيوش النظامية، والتى تكيل لها الضربات وتفر لتعاود الكر، وبشكل مستمر فتهجم بشراسة وتختفى بسلاسة.
فهل يمكن للانسحاب الذى هو ترك المعركة بالكلية أن يكون مخططاً ومنظماً ويصاحبه خدع حربية بل ويتم اعتباره من الإنجازات على الصعيد العسكري؟!
وإن كان كما قيل إن الانسحاب أشد من الهزيمة فما نحن بصدد الحديث عنه من انسحاب لهو يسمو فوق النصر، ويعتبر منجزه نقطة انطلاق له لدخول التاريخ العسكري من أوسع أبوابه.
فالقائدين العسكريين الذين نحن بصدد الحديث عنهما، تاريخهما متخم بانجازاتهما العسكرية، وانتصاراتهما المدوية، فـ (خالد بن الوليد) زلزلت هجماته قواعد المرتدين المتمردين، ورج جدر الامبراطورية البيزنطية الرومانية الشرقية بجرجرتها إلى أتون هزائم متتالية مجلجلة، وهز عرش الأكاسرة الفرس بانتصارات مدوية ملعلعة، ولكن يبقى انسحاب مؤته ضمن انجازاته البارزة التى نال عليها لقبه الأثير الشهير “سيف الله المسلول”، وأمسى كما قيل على ألسنة الروم سيف من السماء.
ول(سعد الدين الشاذلي) ريادته في الجيش المصري التى لا تنكر، واسهاماته التى لا تتكرر، ويبقى انسحابه الرائع المنظم في حرب 1967 نقطة انطلاق لأن يتولى سلاحى الصاعقة والمظلات، أو ما يطلق عليهما القوات الخاصة أو النخبة في سابقة فريدة في تقاليد قيادة الأسلحة في الجيش المصرى، حيث ساهمت القوات الخاصة بعدها بنسبة 90% من العمليات العسكرية في حرب الإستنزاف، والتي أعادت الثقة لجيش مهزوم منهك ومنهار، وكانت بمثابة تدريباً عملياً لدخول حرب اكتوبر المجيدة ومن بعدها تولى قيادة منطقة البحر الأحمر العسكرية ومنع عنها بخطته الأمنية القرصنة الإسرائيلية المتصلة، ويتم اختياره بعدها رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية متخطياً أربعين لواء اقدم منه ليضع خطة العبور العظيم ويشرف عليها.
ولهذين الانسحابين الذين طغيا على ما عداهما من إنجازات لهذين البطلين يحملان من الدلائل والنتائج ما يستوجب التبجيل والاستحسان لما يلى:ـ
ـ إن الانسحابين كليهما كانا تطبيقاً للحكمة الذهبية العملية (( ما لا يدرك كله لا يترك كله ))، فكان البديل لتدمير جيش المسلمين في مؤته بعد استشهاد قادته الثلاثة هو الانسحاب، كما كان البديل لتدمير مجموعة الشاذلى المكلفة بحراسة القطاع الأوسط من سيناء بعد انهيار الجيش المصرى كله هو الانسحاب.
ـ كلا الإنسحابين كانا تعطيل مبدع لهدف رائع سهل المنال لمنافسه، وهو تحطيم قواته العسكرية بالكلية، وعدم تحقيق هدف أحد المتنافسين لهو فشل له ونجاح لمنافسه الذى أجبره بعد نجاح الانسحاب أن يعض ـ بغيظ ـ على أنامله بعد أن كان مكشراً ـ بغرور ـ عن أنيابه
ـ تتخلل أحداث هذين الانسحابين من صنوف الشجاعة النادرة والحماسة الفائقة ما لا يتوائم مع ما تحمله التسمية من إيحاءات ودلالات، فيصف (خالد) أحد مشاهد القتال قائلاً: )قد انقطع في يدي يومَ مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية ) كما دارت مناوشات على امتداد من 2 إلى 3 كيلو متر بين مجموعة الشاذلى المتمركزة شرق الحدود المصرية والقوات الاسرائيلية أظهر فيها المقاتلون المصريون الكثير من صنوف الشجاعة ورباطة الجاش.
ــ وفضلاً عن ذلك يتجلى في هذين الإنسحابين حكمة التصرف وحنكة التثبت القائم على التخطيط اللحظى نتيجة حدوث معطيات جديدة غير متوقعة تحت أجواء من الحرب الشرسة، وأنواء تهدد أفراد الجيش بالفناء، وهذا لا يتأتى إلا بالتخلى عن الخوف والتحلى بالشجاعة.
ــ وكما يعتبر (العقاد) الانسحاب بشكل عام أصعب من النصر في بعض المآزق، لأن النصر ميسور مع اجتماع العدة له واحتمال الشدة فيه، ولكن الارتداد المأمون غير ميسور لكل من يريده وهو في أضعف الموقفين..إلا أن تكون له خبرة بالقيادة تكافئ الرجحان من قوة العدو الذى يرتد بين يديه.
إنسحاب مؤته
لقد كان التفوق العددى الهائل للجيش البيزنطى الرومانى المتحالف مع عرب الغساسنة فى موقعة مؤتة ((200 ألف جندى ))على قوات المسلمين (3 آلاف جندى ))أثره البالغ في إنهاك قوتهم حتى تتابع على قوات المسلمين ثلاثة من قادتهم (( زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وعبد الله بن رواحة )) جميعهم نال شرف الشهادة، وحين أوكلت القيادة( لخالد بن الوليد) كان البديل الأمثل لهلاك جيش المسلمين هو الانسحاب بشكل يحافظ على القوة الباقية له، فبعد أن نجح (خالد بن الوليد) في الصمود أمام جيش الرومان طوال النهار، في أول يوم من القتال، وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان، حتى ينجح في الإنسحاب بالمسلمين دون أن يتمكن الرومان بحركات المطاردة لقواته أن ينالوا من جيشه، فبحنكته العسكرية يعرف جيداً أن الإفلات من براثن هذا الجيش الإمبراطوري الضخم صعب المنال حال انكشاف المسلمين وقيام الرومان بتعقبهم، فكان تخطيطه في انسحابه الاستراتيجي يقوم على الحرب النفسية، والمناورة الذكية السريعة المعقدة التى تطلبت منه بجانب التفكير في التخطيط، المجهود المضني، لتحويل ما هو مخطط مرسوم إلى واقع حربي ملموس، فلم يمنعه التعب الناتج عن تواصل الصمود نهاراً من تتابع الحركة الدؤوبة بجيشه ليلاً، فكسرت طقطقة حوافر الخيول المختلط بصهيلها الصاخب سكون الليل، وفضلاً عما صاحب ذلك من غبار متناثر ملأ به الأفق القاتم، إيحاًءً بمدد قادم، وفى صباح اليوم التالي توالى تعمد إثارة الغبار خلف الجيش، وعلت أصواتهم بالتكبير والتهليل، كذلك قام بتبديل الرايات وغير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقه، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الروم أنكروا حالهم، وانطلت عليهم الحيلة فقالوا : جاءهم مدد، فأصابهم الخوف، وهجم (خالد بن الوليد) على الروم وقاتلهم بجيشه، حتى وصلوا إلى خيمة قائد الروم ثم أمر (خالد) بانسحاب الجيش بطريقة منظمة ناحية عمق الصحراء، وأخذ يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظناً منهم إن المسلمين يستدرجونهم حيث مددهم الموهوم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء ولم يتبعوا (خالد) في انسحابه، وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين، ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى عادوا إلى (المدينة).
الانسحاب في سيناء
أما بالنسبة لما حدث في 5يونيو(حزيران)1967م في الجبهة المصرية مع إسرائيل، فقد كان كارثة حقيقية للجيش المصري بكل المقاييس، كان أبرز مظاهرها فرار جماعى غير منظم بعد ضربات جوية إسرائيلية مُركَّزة على كل مراكز الدفاع الجوي، والمطارات الحربية، وأصابتها بالشلل التام أعقبها هجوم بري واسع النطاق على (سيناء) من الجنوب باتجاه الشمال، فانقسم الجيش إلى أشلاء متناثرة لا يدرى كل شلو عن صنوه شيئا، وأصبحت إسرائيل على إثرها متحكمة في كل (سيناء).
وفي وسط هذه الأجواء الكارثية، كانت الوحدة العسكرية التى يقودها (سعد الدين الشاذلي) والتي عرفت ب(مجموعة الشاذلي) والمخولة بحراسة القسم الأوسط من (سيناء)، والمتكونة من 1500 جندى من القوات الخاصة والمدرعة، قد انقطعت عنها الصلة بالقيادة العامة للقوات المسلحة وهى في الصحراء المكشوفة مفتقدة لكل وسائل التأمين والحماية، وهو ما يعني إن الطيران الإسرائيلى بسهولة سوف يقوم بتدمير كل الوحدة، ونتيجة لحسن التصرف، والدراية العلمية بطبيعة طبوغرافية الأرض، اتجه (الشاذلى) بقواته ناحية الشرق إلى حيث وادى( لصان ومعين) داخل الأراضى الفلسطينية بخمسة كيلو مترات حيث تحيط به الجبال التي توفر الحماية لقواته من القصف الجوي، لأن محاولة القصف الجوي معناها اصطدام الطائرات بالجبال.
وعلى الرغم من ذلك كانت الطائرات تحوم صباحاً ومساًءً تلقى بمنشورات تحثهم على الاستسلام، وتخبرهم بهزيمة الجيش المصري وانسحابه بشكل كامل من (سيناء) كنوع من الحرب النفسية، فتطلب الأمر الصمود النفسي بالشحن المعنوي بجانب حسن التصرف، وحاول الإسرائيليون اقتحام الممر برياً عن طريق الدبابات والمشاة، ولكنهم كانوا يتراجعون بعد تدمير بعض المعدات لهم.
وكانت هذه القوات المتحصنة في داخل الوادى من تفوق جوي إسرائيلي قد تمكنت من تحقيق اتصال لاسلكي بمقر القيادة العامة بـ(القاهرة)، والتي أخبرتهم بانسحاب كامل الجيش المصري من (سيناء).
وأمام هذا الوضع العسكري الميئوس كان خيار الانسحاب الخطير لهو البديل للاستسلام الذليل ـ وللضرورة ـ كان لابد أن يبدأ ليلاً وخلسة في غفلة عن الطائرات المتربصة بتلك القوات التى قطعت المسافة من أقصى شرق (سيناء) إلى غربها بطول 200كيلومتر، وتحت سيطرة جوية وبرية كاملة ومحكمة للقوات الإسرائيلية، وسلك الشاذلي في انسحابه محاور ودروب غير مألوفة تجنباً لمخاطر الاستكشاف، وكانت الخسائر ضئيلة قياساً بسوء الموقف وصعوبة الأوضاع المحيطة بهم.
فانسحاب (مؤتة) القائم على المناورة السريعة والتبديلات المعقدة في أقسام الجيش، كان يصاحبه جلبة وضوضاء وتكبير وتهليل لتعويض النقص العددي بزيادة الحركة وعلو الضجيج، أما انسحاب (سيناء) الذى كان على مرحلتين جزئياً متفرداً ناحية أرض العدو للتخفى من القصف الجوي في عقر داره، وبقى على حاله لجهالة الموقف المترتب على قطع الاتصال، حتى تم استئنافه فى مرحلته الثانية في اتجاهه الصحيح حين وضحت الرؤيا، وهو على العكس من انسحاب مؤته الصاخب حيث كان يسوده السكون التام للتخفى عن الأعين.
وخلاصة القول ان خطة (خالد) كانت تقوم على إرتداد فائق التنظيم والشجاعة في مواجهة عدو فائق المتانة بفارق العدد والإمكانيات، بينما كانت خطة (الشاذلى) تقوم على اختراق فائق الترتيب والبراعة لأرض تحت إمرة عدو فائق الشراسة بفارق العدة والعتاد جواً وبراً.
واستفاد (خالد بن الوليد) من خطة الانسحاب عندما طبقها في مواجهته الثانية للروم في (أجنادين)، فحتى لا تظهر مشكلة التفوق العددي جاء من الجبهة الشرقية بعشرة آلاف مقاتل، وكما كان انسحابه في (مؤته) يعتمد على سرعة الأداء كان التحاقه بالجيش الإسلامى في (الشام) من (العراق) بسرعة فائقة، فقطع هذه المسافة في ثمانية عشر يوماً
واستفاد (سعد الدين الشاذلي) من انسحابه من (سيناء) في خطة العبور(المآذن العالية ) التى كانت في جزء منها تعتمد على عبور (قناة السويس)، وتدمير(خط بارليف)، والتمركز لمسافة من 10 إلى 15 كيلو متر شرق (القناة) تحت مظلة من منظومة الدفاع الجوى الثابت والمتحرك، حتى يدرأ خطر التفوق الجوي الإسرائيلي، ويؤمن أفق ساحة القتال، وحين تم تطوير الهجوم للوصول للمضايق ـ وهذا ما كان يرفضه الشاذلي ـ وخروج القوات من تحت مظلة الدفاع الجوى، وانكشافها أمام القوات الإسرائيلية، قامت فرقة (البرت ماندلر برن) الإسرائيلية بسهولة بالقضاء على فرقة مدرعة مصرية وما استتبع ذلك من حدوث الثغرة.
وأخيراً يبدو التماثل واضحاً بين الانسحابين في الظروف والاعداد والتخطيط والنتائج على الرغم من تغير الزمان وتباعد السنين وتبدل آلات الحرب والذى يرجع في جزء منه إلى التشابه بين القائدين وتأثر (سعد الدين الشاذلى) ب(خالد بن الوليد).
الله عليك يا مدير
سرد جميل وبديع تنم عن اديب اريب مثقف ومتمكن من لغته ومعلوماته
زادكم الله علما ونفع بعلمكم الامه
الله عالجمال
من اروع ما قرئت استاذى العزيز سلمت وسلمت اناملك ولى الشرف طبعا انك مصرى وصعيدى كمان
أحسنت يا استاذنا
ذلك التشابه و تلك المقارنة و الربط بين كلا البطلين و تصرفهما الرائع في ظرف عصيب لا شك
منك نتعلم و نستنير – تحياتي
دوما صاحب أشراقات جميلة وحروف تشكل لوحة فنية رائعة .. تضاف الي سجل المقالات الوثائقيية الرائعة التي بدأت بأيران ومن بعدها أفغانستان وغيرهم كٌثر .. أحسنت كاتبنا وأديبنا المفضال ..
احسنت يااستاذ محمد مطاوع
مقالة رائعة حللت الدافع والفكر والوسائل والنتائج نتعشم ان يقرأ الشباب ويعول تلك الحقائق بل إن هناك من كبار المثقفين من يتبنون فكر الرئيس الأسبق السادات أن الشاذلى كان منهارا عند حدوث الثغرة وأنه هو من قام بتوجيهه للحل رحم الله العبقرى الشاذلى ولكن أقول إن السادات كان له هدف آخر من المعركة وهو ايضا رحمه الله كان ثعلبا سياسيا ولكن لم يكن علي أن يشوه الآخرين
يا رب سديت عننا يا رب يا رب فك كربي يا رب😭😭😭😭حلم حلم حلم حلم حلم حلم حلم حلم حلم حلم