بدايةً دعونا نتفق على أن مبدأ الحاجة والعَوْز في حد ذاته يعتبر أمرًا له من الهَيبة والوقار ما له أو على الأقل فإننى -على المستوى الشخصى- أحسبه كذلك؛ فَبِغَضِّ النظر عن مدى الهوان الذي يلحق بصاحبه إلا أننى أهيب وأرتهب غاية الرهبوت لمجرد رؤية إنسان ساقته حياته للسَّيْر ذليلًا، وهنا يجب الرفق به وتقديم يد العَوْن “والله في عَوْن العبد ما كان العبد في عَوْن أخيه”، ولكن ماذا عمَّن تَخَفَّى في لِباس الصَّحْبِ الكريم وراح يَسْلُكُ تلك الطريق برغبته.. يتودَّد، يترفَّق، يَلين ويتوارى بمخمصته، يخفض جَناحَيْ طَوْعِهِ، يخضع بمعسول قوله لا لشئٍ سِوَى لقنصف فُرَصِ السُّمُو ومكامن الرفعة أو لاستقضاء مصالح ذاتية من هنا وهناك بلا أدنى مبالاة بمعانى الإنسانية والمودة والصداقة الصادقة والحب الخالص في الله دونَما أية منفعة تُذْكَر.
إن مثل هؤلاء الحمقى -رفقاء المصلحة- وجودهم وعدمه سواء؛ فحضورهم الملحوظ في حياتك سينتهى لا محالة بمجرد تَذَوُّق لذيذ نفحاتِك، أو استلهام نَبْعِ فَيْضٍ منك، أو استنباط منافع أخرى من آخرين، أو أو أو..
إنهم كالشيء واللاشيء في الوقت ذاته.. إنهم كَنَبْتَةِ “غرقدٍ” خبيثةٍ أينعت في أَنْفُسِ مُقَرَّبها واستشرت في وُجدان مُحِبِّيهِا، حتى إذا ما استولت على ما استشرت لأجْله، شَرَعَتْ في اقتلاع جذورها من أعماق القلوب وأنسجة الصدور وقطَّعت في سبيل ذلك كل آصِرَة؛ ليتيسَّر لها اللَّوْذُ واللَّهْثُ مُجَددًا وراء حاجتها عند مُغَفَّلٍ آخر!
وإننى إذ ما تعمَّقْتُ أكثر في تِعداد حالات الطمع والأنانية الجَمَّة تلك التي يكتنزها أولئك بخوالجهم؛ ويخفون من خبائثهم ما لا يبدون لك، فلابد وأن ألقى الضوء على أكثر حالات رفقاء المصلحة شيوعًا في هذا الإطار، ألا وهى حالة الصديق اللَّدود -كما أسميتها- وهو ذاك الصديق المنافق الذي يُضَحِّى بك -كرفيق دربه- غير عابئٍ ولا مُكترثٍ بوعود وذكريات وآمال وتلازمات شخصَيْكُما، ويتحول لشيطان إنسٍ يتقوقع مع عدُوِّك في سبيل التلذُّذ بنعيم منافع واهية.
وأرانى عندما أردت تشبيه تلك العلاقة ما بين صديق المنفعة وبين عدوك -الذي باعك لأجله- لم ولن أجد مجازًا أكثر تمثيلًا لها سِوَى تلك العلاقة الباراجماتية النفعية القميئة التي تجمع ما بين الحِمار وعشبة البرسيم !
نعم.. ستظل دَوْمًا غاية الحِمار عُشبة برسيمٍ يقتات عليها، وستظل أقصَى أماني البرسيمة لُعاب حِمارٍ يلعقها، حتى وإن تَخَلَّوْا في سبيل مُبتغاهم هذا عن الأخضر واليابس من أمتعة الدنيا وبهجتها.
وفي السياق ذاته لا أنكر أن الحياة قد ابتلتنى كثيرًا بمثل هاذَين الصنفين -الحِمار وبرسيمته- حتى اقشعَرَّت نفسي واستاءت روحي من وَجَسِ رواثاتهما؛ فَلَكَمْ التقَيْت بأَحْمِرَةٍ ذواتَى ظَلَفٍ زائفٍ وقد تشدَّقَت بفروسية جوفاء.. رأيتها على أَتَمِّ الاستعداد لتَخَطِّي رقاب الجميع أيًا من كانوا في سبيل الحصول على نبتةٍ مقززةٍ تلتقمها ولا تُبالي.. وكذا ابتلتني دنيايَ بحسناوات الزهور وقد تحوَّلت إلى برسيمةٍ حمقاء، وتخلَّت عن بديع حقلٍ اهتزت ورَبَتْ في كمال جوف جماله، واستغنت عن جداول ماءٍ لطالما رَوَت شرايين محياها، وتخلَّت عن رفقاء غَيْطِها بزهيد وعودٍ ألقاها إليها حِمارٌ معتوهٌ بأن يجعلها سيدة ملكات جُرنه.
فتبًا ثم تبًا ثم تبًا لأبلهَيْن تَتَوْأما في خِسَّةٍ وضَحُّوا بكل ذي قامةٍ لينالا نصيبَيْهِما من دنيا وضيعة وصفها العَلِيُّ الأعلى في عُلاه بمتاع الغرور.
ومن حالات رفقاء الحاجة كذلك نجد ذاك النوع المشاكس الشفي الأَشِر، الذي لم يكتف بِنَيْلِ حاجته فَحَسْبْ.. بل تجده وقد هداه غِلُّهُ للوشاية بِكَ بشكلٍ أو بآخر إلى الحد الذي لا يغمض له جفن إلا بإحداث أذىً لك، وهو تصرفٌ مرضيٌ سيكوباتيٌ صميم.
فكيف لهذا النرجسيُّ التخلى عن تِيهِهِ وافتتانه بِعِظَمِ كيانه، ويرضَى بأن يكون على قيد الحياة مَن هو أفضل منه.. حتى وإن كان مَن شجَّعه يومًا ودعَّمه وسانده واستوصَى به خيرًا؟
فقط يريد أن يكون هو الوحيد الأوحد على وجه البسيطة فَذَّة عصره وقدوة أقرانه، ومُعَلِّمُ ذاته ومُدَعِّمُها وخبيرها وليس لِأَحَدٍ عليه من فضلٍ إلا نفسه !
ولِرُفَقاء الحاجة تِسْعٌ وتسعون صِنفًا أو يزيد، اكتفي بعرض ما عرضت منهم، فيا أرباب القلوب قبل الألباب.. حكِّموا ضمائركم واستوصوا بالأخِلَّاء خيرًا؛ عَلَّكُم تفوزون بِطِيبِ وُدِّهِم في دنيا الفناء وفي أخراكم، ولعل الله يجعل لكم حظًا في الدنيا والآخرة وتكونون ممن قال المصطفي “محمد” -عليه الصلاة والسلام- في حقهم:
{إنَّ أهلَ الجَنةِ إذا دخَلُوا الجنّة ولم يجِدُوا أصحَابهُم الذِين كانُوا معَهُم على خيْرٍ بالدُّنيا فَإنّهُم يشْفعُون لهُم أمَام ربِّ العِزّة فيقُولُون: يا ربِّ لنَا إخْوانٌ كانُوا يُصلُّون مَعنا وَيصُومُونَ معَنا لمْ نَرَهم ! فيقولُ ربُّنا تعَإلى:[ اذْهبُوا للنّار فأخْرِجُوا مَن عرفْتُم منهُم ] } حديثٌ صحيحْ.
وقالَ الحسنُ البصْريّ: { اسْتكْثِروا منَ الأصْدِقاءِ المُؤمنِين؛ فإنّ لهُم شفَاعةً يومَ القيَامة}.
تحياتى لكم، ودمتم بكل خير،