بادئ ذي بدءٍ وقبل الخوض في حُرمة فقيدنا هذا.. أدعوكم للوقوف دقيقةً حدادًا على روحه ولتقرؤوا له الفاتحة بتمعنٍ ولتهدوه مِن صالح دعائكم بإخلاصٍ وتجرد؛ ففقيدنا اليوم غالٍ والمُصاب جلل ولا شك سيترك أثرًا معنويًا يثقل كاهل محبيه ومريديه، وفقيدنا اليوم محبوه بالملايين ومريدوه عشرات الملايين وحراسه المخلصون لا حصر ولا عد لهم، إنه التعليم المصري رحمة الله عليه.. نعم التعليم المصري الذي راح شهيدًا ضحية الغدر والفشل والفساد وانعدام الرؤى، والتواطؤ مع كياناتٍ استثماريةٍ خاصةٍ أطاحت بمجاني التعليم وأبت إلا أن تُقْحِمَ لغة البيزنس سيدةً للموقف وأن يَحِلَّ التعليم الخاص ضيفًا على المنظومة.. ضيفًا ثقيلًا لابد من استقباله بصدر رحب؛ إذ لا بديل عنه يثري حصيلة أبناءنا بمضامين يافعة كتلك التي اعتادت المدارس التجريبية تقديمها لذوينا طيلة عقودٍ طوال.
ولا ضير إذ أخبرتكم أن المتهم الرئيسي في قضية اغتيال التعليم هو ذاته الشخص الرابض على رأس السلطة التنفيذية المنوط بها تطوير التعليم وإصلاحه وتنفيذ استراتيجياته التربوية التي لطالما وعد بها أيما وعود، ولكن ما لبث إلا أن خالف كل وعوده وحنث أيمان الإصلاح خاصته وراح يضرب عرض الحائط بأماني أولياء الأمور الذين نادوا بإصلاحٍ حقيقيٍ يستوعب طموح وتطلعات أبنائهم، ونكث عهوده لتوسلات المعلمين الداعين للعدالة والمساواة وإكرام كبيرهم والارتقاء بحال فقيرهم لعل وعسى ينصلح حال المنظومة التي لا شك مرهونٌ إصلاحها بصلاح حال حراسها، ولم يقف السخف الوزاري عند هذا الحد بل تعدَّاه ليطأ بكل بأسٍ رقاب طلاب العلم ويدهس استغاثاتهم بحذاء سُلُطاته وهم الذين ضاقت الفصول ذرعًا بكثافتهم فلم تجد خَلاصًا سوى أحضان مشروع المدرسة اليابانية التي لم يتوانى زعيمنا الهمام للحظة قبل أن يقضي عليها هي الأخرى؛ ليحيا تعليم مصر في برزخه الأخير ينظر حساب المَلَكَيْن ليُبْعَثَ على إثْرِهِ إما إلى جنات ما تمنيته لتعليم وطني ووقرت آماله بقلبي وشوقي.. أو إلى ما تمنَّوْه وأرادوا وأده فيه بعد حرْقِهِ في نار “شوقي”.
ورغم سخرية مقالتي تلك ومصطلحاتها المائعة، إلا أن هذا لا ينقص بتاتًا من خطورة الموقف وأزمات التعليم المتكررة التي لا يتسع المجال لذكرها ما بين أزمات رواتب المعلمين، ومشكلات نقابتهم، وقرارات تغيير نظام الثانوية العامة، ونوايا تغيير الوسائل التعليمية التقليدية واللجوء للتابلت في منظومة لا تجد كرسي يجلس عليه التلميذ، وكذا ما فوجئنا به مؤخرًا من قرارات عبثية جديدة تتعلق بالمدارس التجريبية وغيرها الكثير من البنود الخلافية التي ما زادت العملية التعليمية إلا شططًا، وحتى إن أتيح المجال لذكر تفاصيل ذلك تفصيلًا فلن يؤثر قيد أنملةٍ في صانع قرارٍ يفتقد لأصول الصنعة وخباياها؛ ولذا أكتفي بهذا القدر، وأسألكم الدعاء له فإنه الآن يُسأل؛ فاللهم اسأللك للتعليم المصري المغفرة والرحمة وأن تسكنه اللهم دارًا خيرًا من داره وتبدله أهلًا خيرًا من أهله وأن تغسله بالماء والثلج والبَرَدِ وتنقه من الذنوب والخطايا كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس، وأن تجازه اللهم بالإحسان إحسانًا وبالسيئات عفوًا وغفرانًا، وتسكنه الفردوس الأعلى وتنزله منازل الأبرار مع الصديقين والشهداء وحسُن أولئك رفيقا.. ولا عزاء للعلماء..